عصر التحولات: حين تروي الأرقام قصة إعلام في مفترق الطرق

فواصل –
عصر التحولات: حين تروي الأرقام قصة إعلام في مفترق الطرق
في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير، وتتبدل فيه عادات الجمهور بسرعة مذهلة، تأتي الأرقام لتكشف حقائق قد تكون صادمة لبعضنا، لكنها بالتأكيد ليست مفاجئة لمن يراقب المشهد الإعلامي عن كثب. المعطيات التي كشفت عنها رئيسة الهاكا خلال اللقاء الدراسي حول محاربة الأخبار الزائفة، ليست مجرد إحصائيات باردة، بل هي مرآة صادقة تعكس واقع استهلاكنا للمعلومة في المغرب، وتطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل المهنة التي نعشقها ونمارسها.
حين نقرأ أن 66% من المغاربة يتابعون الأخبار عبر التلفزيون، فإننا أمام تأكيد لهيمنة لا تزال راسخة للشاشة الصغيرة رغم كل التحولات الرقمية. لكن الصدمة الحقيقية تكمن في ذلك الرقم الذي يكاد يكون مأساويا: 1% فقط للصحافة الورقية والإذاعات معا. نعم، واحد بالمئة! رقم يختزل قصة انحسار دراماتيكي لوسائل إعلامية كانت يوما عماد الفضاء العام وحارسة الديمقراطية.
إن وسائل الإعلام، في جوهرها، ليست مجرد ناقل محايد للمعلومات. إنها المنصة التي تصنع الرأي العام، وتحدد أجندة النقاش المجتمعي، وتراقب السلطة، وتفضح الفساد، وتعطي صوتا لمن لا صوت لهم. إنها الجسر الذي يربط المواطن بقضاياه الكبرى، والمرآة التي يرى فيها المجتمع نفسه. لكن هذه الأدوار النبيلة تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة.
التلفزيون، رغم احتفاظه بالصدارة، يجد نفسه في منافسة شرسة مع شبكات التواصل الاجتماعي التي استحوذت على 27% من اهتمام الجمهور. هذه المنصات الرقمية، بسرعتها وتفاعليتها وقدرتها على تخصيص المحتوى، باتت تستقطب الأجيال الشابة وتعيد تشكيل طريقة استهلاكهم للأخبار. لكن هذا التحول يحمل في طياته مخاطر جسيمة، أبرزها انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة التي تنتشر كالنار في الهشيم، دون رقيب أو حسيب.
أما الصحافة الإلكترونية، بنسبتها المتواضعة 4.7%، فهي تمثل فضاء واعدا لكنه لا يزال يبحث عن نموذج اقتصادي مستدام وعن هويته المهنية الواضحة. بين مواقع تحترم المعايير المهنية، وأخرى تنشر الإشاعات والعناوين الصادمة بحثا عن النقرات، يقف القارئ حائرا أمام سيل من المحتوى لا يعرف كيف يميز غثه من سمينه.
لكن المأساة الحقيقية تتجسد في واقع الصحافة الورقية. تلك التي كانت تملأ المقاهي صباحا، وتثير النقاشات الحامية، وتشكل ذاكرة الأمة، باتت اليوم في غرفة الإنعاش. رقم 1% ليس مجرد إحصاء، بل هو صرخة استغاثة من قطاع بأكمله يواجه خطر الانقراض. مطابع تغلق أبوابها، صحفيون يفقدون وظائفهم، عناوين عريقة تختفي من الأكشاك، وذاكرة مكتوبة تتلاشى يوما بعد يوم.
السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام نهاية حتمية للصحافة الورقية؟ أم أن ثمة فرصة للبقاء والتكيف؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تتطلب منا جميعا، كممارسين ومديرين ومستثمرين في هذا القطاع، مراجعة شجاعة وصادقة لنماذجنا وممارساتنا. الجودة الصحفية وحدها لم تعد كافية، التحول الرقمي بات ضرورة، والتجديد في أشكال السرد والتوزيع صار مسألة بقاء.
في زمن الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة، تزداد الحاجة إلى صحافة مهنية، موثوقة، مستقلة، وشجاعة. صحافة تحترم ذكاء قارئها، وتلتزم بالحقيقة مهما كانت الضغوط. هذه المسؤولية تقع على عاتقنا جميعا، سواء كنا نعمل في الورقي أو الرقمي أو التلفزيوني.
الأرقام التي كشفتها الهاكا ليست حكما نهائيا، بل هي دعوة للتفكير والعمل. دعوة لإعادة اختراع أنفسنا، للدفاع عن قيم المهنة، ولبناء جسور جديدة مع جمهور يتغير بسرعة. المستقبل ملك لمن يجرؤ على التغيير، ويؤمن بأن الصحافة، رغم كل التحديات، ستبقى حاجة إنسانية ومجتمعية لا غنى عنها.
وفي النهاية، نحن لسنا مجرد شهود على عصر التحولات، بل شركاء في صنع مستقبل الإعلام الذي نريد.