عودة الإعلامي إلى ضميره الحيّ

فواصل –
حين قررت مضطرا، منذ مدة، الانسحاب من المشهد الإعلامي، لم يكن ذلك ترفا ولا هروبا، بل كان موقفا وجوديا أمام واقع إعلامي بات أقرب إلى سوق للنخاسة، حيث تباع الكلمات وتُشترى المواقف، ويُصاغ الخبر وفق ما تمليه السلطة والمال، لا ما تقتضيه الحقيقة. لم يكن قرارا سهلا، لأن الصحافي (الإعلامي)؛ الذي آمن بأن رسالته هي البحث والكتابة عن الحقيقة والانتصار للضعفاء، لا يمكنه أن يغلق قلمه كما يغلق باب مكتب (بحكم التقاعد)، لكنه كان احتجاجا أخلاقيا على وضع لم يعد يُحتمل.
لنحوّل “التقاعد” إلى تعاقد..
اليوم، وأنا أعود إلى الكتابة، لا أعود بحكم العادة أو بدافع الحنين، بل لأن الصمت في زمن الزيف خيانة، ولأن السقوط في دوامة الإحباط والتخلي عن الكلمة هو انتصار ضمني لمن يريدون إخماد الأصوات الحرة وتحويل الإعلام والمشهد الإعلامي برمته، إلى مسرح للدمى تحرّكه خيوط المال والنفوذ والسياسة والمصالح الشخصية، وبطبيعة الحال أشياء أخرى..
الإعلام في قبضة السلطة: حين تصبح الحقيقة وجهة نظر
لم يكن الإعلام يوما حياديا بالمطلق، فالمصالح كانت دائما حاضرة في توجيه الخطاب الإعلامي، لكن ما نشهده اليوم هو انهيار غير مسبوق لمفهوم الصحافة ك”سلطة رابعة”، وتحوّلها إلى أداة بيد الأنظمة والمجموعات السياسية والمالية الكبرى.. لم تعد الصحافة الحرة مجرد ترف، بل أصبحت تهمة قد تكلف الصحافي حياته أو حريته أو على الأقل خبزه اليومي.
المغرب.. كما في بقية الدول العربية، الإعلام الذي يجب أن يكون ناقلا للحقيقة دون تحيّز هو في حقيقة الأمر صانعٌ للوهم.
يُختار ما يُنشر وما يُبثّ بناء على اعتبارات سياسية واقتصادية ضيقة، وتُفرض على الصحافيين، بطريقة أو بأخرى (الرقابة الذاتية)، تُفرض خطوط حمراء تحجب القضايا الجوهرية، ويتم تحويل الرأي العام من قضاياه المجتمعية إلى قُشور بدعوى “المصلحة العامة”، بينما تُفتح المساحات لمحتوى استهلاكي يكرس التفاهة، ويُخدّر الوعي الجمعي بالمدح والتقديس والتخويف والتخوين كلما كان رأيٌ معارض.
يُلاحَق الصحافيون الحقيقيون بتهم (مخدومة)، يُزج بهم في السجون بملفات ومحاكمات، أو يُدفعون إلى المنفى القسري، بينما يملأ الفراغ أصوات لا تجيد سوى التطبيل، أو أجندات أجنبية تحاول إعادة تشكيل ذاك الوعي الجمعي بما يخدم مصالحها..
أما الحق في التعبير كمبدأ حقوقي، فحدث ولا حرج عن الانتهاكات التي تطاله(محاكمة حقوقيين ومدوّنين)، ببنود قوانين وُضعت خصّيصا على مقاس عصر التطور التكنولوجي(محاكمات بسبب تدوينات على وسائط رقمية).
أما في الإعلام الدولي، فقد سقطت ورقة التوت منذ زمن.. لم يعد الحديث عن “الموضوعية” و”المهنية” سوى شعارات جوفاء، فيما يشاهد العالم بأسره كيف تُدار الأخبار وفق أجندة سياسية واضحة في خرق سافر لأخلاقيات العمل الصحفي وبازدواجية المعايير حسب الأجندات السياسية التي ظهرت مع نظام عالمي “ترامبي” جديد.
رأينا ذلك في التعامل مع جرائم الاحتلال الإس_رائي_لي، حيث يتم تصوير المجازر كعمليات “دفاع عن النفس”، والم_ق_اومة كـ”إرهاب”، بينما تُبرر الحروب والاستعمار الجديد باسم “نشر الديمقراطية” و”حماية الأمن العالمي” و”الديانة الإبراهيمية”.
الخذلان العربي: بين الصمت والتواطؤ
وعلى المستوى الرسمي العربي، فقد أصبح الانبطاح سياسة، والصمت تواطؤا مُعلنا. لم تعد القضية الفلسطينية، التي كانت يوما معيار الشرف السياسي، سوى ملف مُحرج في دوائر الحكم، يتم التعامل معه بمنطق البيانات الجوفاء والمواقف الهشة (مؤتمر القمة العربي المؤجل الأخير بمصر).
رأينا كيف أصبحت بعض الأنظمة تتسابق نحو التطبيع، لا فقط مع الاحتلال، بل مع سرديته الكاذبة، مقدمة له شهادات حسن سلوك على جرائمه، بمساهمتها في الحِصار والتجويع والتهجير القسري (…)
أما الشعوب، التي ظلت على امتداد عقود تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها المركزية، فقد وُضعت بين فكي كمّاشة: أنظمة تقمع كل صوت يناصر فلسطين، وإعلام يُروّج لمقولات الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر.
لماذا نعود؟
نعود لأن الصحافي الحقيقي لا يعتزل القضايا التي آمن بها، ولا يشيخ ضميره كما قد يشيخ الجسد.
نعود لأن الكلمة، رغم محاولات تدجينها، تظل أخطر من الرصاص في معركة الوعي.
نعود لأن الحياد في زمن الظلم انحياز للطغاة، ولأن الكتابة، حين تُصبح الحقيقة جريمة، هي فعل مق_اومة.
لماذا نكتب؟
نكتب لأننا لا نريد أن نكون شهود زور على هذا الزمن الرديء.
نكتب لأن القلم سيظل هو السلاح الأخير في وجه الطغيان.
نكتب لأن الصحافة لم تكن يوما مهنة صامتة، بل كانت وما تزال صوت من لا صوت لهم.
قد يظن البعض أن الكلمة لم تعد تصنع فرقا في عالم تحكمه القوة والمصالح، لكن التاريخ يعلمنا أن التغيير يبدأ دائما بفكرة، والفكرة لا تموت. لهذا، نكتب. لهذا، نعود.
هذه العودة ليست ترفا، بل التزامٌ أخلاقي أمام التاريخ، أمام القارئ الذي يبحث عن صوت خارج الجوقة، (رغم أن القارئ من الناحية العددية قليل أمام سيطرة الصورة)، هذه العودة التزامٌ أمام جيل يحتاج إلى إعلام يُعيد إليه ثقته في الحقيقة.
الصحافة ليست مهنة لمن يريدون السلامة، بل لمن يؤمنون بأن الحقيقة تستحق أن تُقال، ولو كلفت صاحبها حياته، (رحم الله الصحافيين شهداء غزة).
ولهذا، نعود.. من المغرب ب”فواصل”، ومن فرنسا “بالعربي من باريس