ما الذي غيّرته غزّة فينا..
ما الذي غيّرته غزة فينا..
ليست الحرب في غزة مجرد نزاع بعيد نتابعه عبر الشاشات، بل هي جرحٌ يمسّ أعماقنا، يوقظ في كل واحد منا حساسية كنا نظن أحيانا أنها خمدت. من خلال القصف، الصرخات والمعاناة، أصبحت غزة مرآة تعكس عيوبنا، تواطؤنا الضمني، ومسؤولياتنا الجماعية.
المَشاهد التي شاهدناها من غزة طوال مدة حرب الإبادة (471 يوما) التي نهجتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، قلبت الروتين اليومي. تلك الوجوه الملونة بالدماء، تلك الأجساد المتناثرة والأشلاء والتي هي تحت الركام، تلك العائلات الممزقة، تلك النظرات المطفأة لمن فقدوا كل شيء، ذلك الدمار الشامل الذي شمل كل مناحي ومقومات الحياة… أجبرتنا جميعها على مواجهة الألم وَجْهًا لوجه.
غزة، كشفت حقيقة كانت غالبا مَخفيّة: إنسانيتنا المشتركة التي جُرحت بسبب اللامبالاة والتقاعس.
ليس فقط سكان غزة هم المحاصَرون، بل ضمائرنا أيضا، تتأرجح بين الغضب، الشعور بالذنب، والعجز.
غزة تثير فينا تساؤلات، تُكسّر جدران يقينياتنا لتُذكّرنا بأن السكوت عن الظلم هو بحدّ ذاته شكل من أشكال التواطؤ. ولذلك أقول إن كل من سكت عما وقع لغزة فهو متواطئ، وأخص بالذكر المثقفون والأكاديميون والإعلاميون.
لقد أظهرت أزمة غزة أيضا انقساما عالميا واضحا. وفضحت خطابات سياسية لا إنسانية أحيانا أخرى، أظهرت وسائل إعلام غير مهنية منتهكة أخلاق العمل الصحفي وأظهرت انحيازها، وأظهرت مجتمعا دوليا مشلولا أمام المصالح الجيوسياسية التي تفرضها “القوى العظمى”، وأظهرت أن لا مجال للحديث عن الحقوق أو القوانين الدولية.
غزة كشفت أن عالمَنا ليس فقط ساحة معركة للجيوش، بل أيضا لسرديات تتحكم بالعقول. ومع ذلك، فإن الحشود التي تحركت في أنحاء العالم تُظهر أن التعاطف والتضامن يتجاوزان الحدود.
غزة أيقظت جِيلا جديدا من النشطاء والمواطنين العالميين، مدفوعين بإحساس عميق بالمسؤولية الأخلاقية، بحق شعب في الدفاع عن أرضه بل وعن وجوده، وبحقه بالعيش على أرضه.
أجبرتنا غزة على مواجهة تساؤلات داخلية جماعية.. أين إنسانيتنا؟ ما هي قيمنا؟ ما هي أولوياتنا؟ لماذا نسارع إلى التحرك في بعض الأزمات ونصمت في أخرى؟
هذا الصراع يذكّرنا بأن السلام لا يمكن أن يكون مفهوما مجرّدا، وبأن الكرامة ليست شعارات تطلق مجرّدة من أي شعور إنساني، إنه يتطلب أفعالا ملموسة، التزاما مستمرّا، وإعادة النظر في أنظمة غير عادلة بعمق.
غزة علّمتنا أن غضّ الطرف هو خيانة لمن يسعى نحو الكرامة والعدالة.
ما غيّرته غزة فينا يعتمد على ما نختار القيام به لاحقا.. هل سنحوّل هذا الألم إلى فعل؟ فعل التنديد وفعل التضامن وفعل الإسناد وفعل الإيثار وفعل التضحية وفعل المشاركة…
هل سنواصل التحدّي ، تحدي الخوف، تحدي الانكفاء وراء مقولة “تازة قبل غزة”، تحدي عدم الصدح باستنكار كل عمليات التطبيع، تحدي العمل باستجماع كل القوى الحية من أجل بناء مجتمع مستقبل لا يُترك فيه أي شعب خلف تحقيق كرامته وحقه في العيش الكريم؟
لقد اتضحت الحقيقة، ويبقى السؤال: هل سنتجرأ، جماعيا، على مواجهة التحديات المطروحة أمام إنسانيتنا؟
الحمد لله أننا مع الحق..