هل نتوفر على فضاء عمومي بمفهومه الفلسفي العملي؟
حسن اليوسفي المغاري
هل نتوفر على فضاء عمومي بمفهومه الفلسفي العملي؟
من ألمانيا خرجت فكرة الفضاء العمومي، ومع الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس” ومن مدرسة فرانكفورت النقدية، ظهرت نظرية الفعل التواصلي كفلسفة رائدة في الخطاب السياسي..
فبالنظر إلى التجليات الفلسفية التي يتحدث عنها الفعل التواصلي، وبالرجوع إلى التعريف الفلسفي للفضاء العمومي لدى الفيلسوف وعالم الاجتماع “هابرماس”، نجد أن الفضاء العمومي أهم الأماكن حيوية حيث يتحقق الفعل التواصلي بين مختلف الفاعلين السياسيين خصوصا ومختلف النماذج الفكرية والإيديولوجية على حد سواء.وإلى جانب اعتباره “حلبة” للنقاش العام، يعتبر الفضاء العمومي مجالا خصبا للمراقبة، بحيث يحضر النقد البناء وبالتالي المُحاسبة والمُتابعة في إطار الممارسة الديمقراطية للشأن العام.
.. إن الحوار والنقاش العمومي وسط الفضاء العمومي، كفيل بأن يتسم بالصراحة والشفافية، الأمر الذي ينقصنا في واقعنا السياسي عموما، وبالتالي فإن مختلف المحطات التي من المفروض أن يكون فيها الحوار الجاد والنقاش العمومي الهادف مع الاختلاف الضروري، فغالبا ما تبعث على الاشمئزاز بفعل مستوى الخطاب السياسي الهزيل، وبفعل النقاشات التي لا تخلو من مفردات تنهل من قاموس الجهل بالشيء أو برمي المسؤولية وتقاذفها بين الأطراف، بحيث يظهر المستوى الضعيف بلغة خشبية رديئة، وبسيناريوهات عفا عنها الدهر في عصر أصبحت فيه المعلومة في متناول الجميع بفعل التطور التكنولوجي.. أساليب يكون لها الوقع السلبي على الحوار وعلى الفضاء العموميين، وذلك راجع بالأساس إلى المستوى الضعيف للدولة الدستورية التي تلعب هي ذاتها أدوارا سلبية في الفضاء العمومي، سواء تعلق الأمر بوسائل الإعلام الرسمية التي تعتبر فضاء عموميا بامتياز، أو من خلال حضورها في صالونات السياسة والمنتديات واللقاءات العمومية.
كم نحن في حاجة ماسة إلى الرأي النقدي الكشّاف للسلبيات في الممارسة السياسية العمومية، وكم نحن في حاجة ماسة أكبر إلى جيل من السياسيين المتشبعين بروح الحوار الجاد، الحوار البناء دون إقصاء لأي طرف، جيل من السياسيين يتمتع بثقافة الإنصات وبفلسفة النقد الإيجابي، لا بتمجيد سيطرة الدولة وحكامة السلطة السياسية التي تعمل بمقولة “من ليس معنا فهو ضدنا”.
.. الملاحظ أن المجال العمومي عندنا صارت تتحكم فيه جهات ضاغطة “لوبيات” السياسة والاقتصاد، متخصصة في حماية الفساد، الأمر الذي يفسر تحكمها في الفضاء العمومي. الأمر ذاته الذي يُفسر أيضا اهتمامها المتزايد بتقديمها لإغراءات في شكل مساعدات أو معونات، وصارت الأسرة مُتحكمٌ فيها بين دفتي الدولة والسلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، في تناغم تام مع أحزاب ونقابات وجمعيات رسمية تلوث الفضاء العمومي بمساهماتها في تبخيس الرأي المجتمعي من داخل الفضاء العمومي.
.. لا يمكننا الحديث، في ظل هذه الظروف، عن الديمقراطية دون توسيع مساحة النقد والتعبير في الفضاء العمومي، دون الحديث عن واقع الأمور بكل وضوح وشفافية، ولا يمكن للنقد أن يكون بناء إن لم يتمكن الفرد من مُطارحته ومقارعته بالحجة والبيان، مطارحة سياسية اجتماعية اقتصادية أو فكرية، بكل الحرية المطلوبة.
فالرأي مُجرد رأي، ومُطارحته في فضاء عمومي على شكل مناظرات للإقناع، كفيل بإحداث نقاش عمومي سيُحدث لا محالة تغييرا في النقاش السياسي الذي لن يُسيطر عليه منطق الدولة فحسب. ولعل ما نعيشه هذه الأيام من أحداث لكفيلة بوضع حدّ لتلك الحوارات العقيمة، من أجل إيجاد أرضية للنقاش الجاد والواقعي على أرض الواقع.