الرأيفواصل

التنظيم الذاتي للصحافة بين الاستقلالية والتأطير السياسي

دراسة مقارنة على ضوء مشروع القانون الجديد للمجلس الوطني للصحافة في المغرب

فواصل

التنظيم الذاتي للصحافة بين الاستقلالية والتأطير السياسي : دراسة مقارنة على ضوء مشروع القانون الجديد للمجلس الوطني للصحافة في المغرب

حسن اليوسفي المغاري

مقدمة:

يمثل التنظيم الذاتي للصحافة أحد أركان الديمقراطية الحديثة، ويُعد ضمانا حقيقيا لحرية الصحافة واستقلاليتها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. إلا أن ما تعرفه الساحة الإعلامية المغربية اليوم، في ظل طرح مشروع قانون جديد يُعيد هيكلة المجلس الوطني للصحافة، يعيد طرح سؤال الاستقلالية والوظيفة الأصلية لهذا المجلس. ويثير المشروع الجديد جدلا واسعا في الأوساط الإعلامية والحقوقية، بالنظر لما يتضمنه من مقتضيات تمس جوهر مبدأ التنظيم الذاتي.

تهدف هذه الورقة إلى تحليل هذا المشروع في ضوء معايير التنظيم الذاتي المعتمدة دوليا، وإبراز نقاط التراجع التي تضمنها المشروع، وتقديم مقارنة مع نماذج عالمية في هذا الإطار.

 

أولا: الإطار النظري والقانوني للتنظيم الذاتي للصحفيين

التنظيم الذاتي هو منظومة أخلاقية ومؤسساتية تسمح للمشتغلين في الحقل الصحفي بتنظيم شؤون مهنتهم من خلال آليات مستقلة عن الدولة، مثل إصدار الميثاق الأخلاقي، وتدبير شكايات الجمهور، وتأديب الصحفيين عند الإخلال بمواثيق الشرف.

في السياق الدستوري المغربي، ينص الفصل 28 من الدستور على أن “حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة المسبقة، ويجب أن يحترم القانون استقلالية وسائل الإعلام.”

كما أن الفصل 25 ينص على حرية الرأي والتعبير بجميع أشكالها، وهو ما يُعدّ مرجعية دستورية للتنظيم الذاتي كضمانة لهذه الحريات.

وفي السياق الدولي، تؤكد اليونسكو على أن “الهيئات التنظيمية المستقلة للصحافة تشكّل ضمانة أساسية لحماية التعددية وحرية الإعلام”. وتوصي بوثيقة الدار البيضاء (1997) بأن تتمتع هيئات التنظيم الذاتي باستقلال مالي ومؤسساتي، وتُدار من قبل الصحفيين أنفسهم.

كما ينص مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في تعليقه العام رقم 34 على المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، بأن “على الدول عدم التدخل في إنشاء هيئات الإعلام المستقلة أو محاولة التأثير على تشكيلها أو تمويلها بما يحدّ من استقلاليتها“.

 

ثانيا: قراءة تحليلية في مشروع القانون الجديد المنظم للمجلس الوطني للصحافة (2025)

يتضح من خلال القراءة الأولية للمشروع أنه يُعيد تشكيل المجلس بصيغة تمس استقلاليته، ومن بين البنود التي تطرح إشكالات قانونية وحقوقية:

  1. توسيع صلاحيات التعيين:
    • المشروع يمنح للحكومة سلطة تعيين عدد من أعضاء المجلس من خارج الجسم المهني، وهو ما يُفرغ التنظيم الذاتي من مضمونه، ويجعله أقرب إلى هيئة تنظيم إداري.
    • خرق واضح لمبدأ الاستقلالية كما ورد في الفصل 28، ويُعد سابقة في القوانين المنظمة لهيئات التنظيم الذاتي.
    • يتعارض ذلك مع توجيهات اليونسكو التي تشدد على أن تعيين أعضاء المجالس المهنية يجب أن يتم من طرف المهنة نفسها.
  1. المس باستقلالية تمويل المجلس:
    • المشروع ينص على تمويل المجلس من ميزانية الدولة، دون الإشارة إلى آليات تمويل مستقلة (رسوم البطائق المهنية، اشتراكات الناشرين..)، مما يفتح الباب للتبعية المالية وبالتالي التأثير على قراراته.
    • وهذا يتنافى مع توصيات اليونسكو حول التنظيم الذاتي، التي تنص على ضرورة الاستقلال المالي لضمان الحياد والفعالية.
  1. تقليص دور المهنيين داخل المجلس:
    • نص المشروع يُقلّص من عدد المقاعد المخصّصة للصحفيين بينما يعزز الناشرين باعتماد المؤسسات المتوفرة على رأس مال عال، مع توسيع تمثيلية المعينين من طرف الحكومة.
    • يشكل هذا انقلابا على روح التنظيم الذاتي، ويُحوّل المجلس إلى هيئة تقنوقراطية ذات طابع إداري.
    • يتناقض ذلك مع المادة 20 من إعلان ويندهوك +30 الذي يدعو إلى تعزيز مشاركة المهنيين في إدارة شؤونهم الإعلامية.
  1. الغموض في تحديد العقوبات والمساطر التأديبية:
    • المشروع لا يُوضح طبيعة العقوبات التأديبية ولا الجهات التي يمكنها الطعن فيها، مما يُعرض الصحفيين للتمييز وربما التوظيف السياسي للعقوبات، بل أن هناك إيحاءات ضمنية للمحاكمة بفصول القانون الجنائي.
    • وهذا يتعارض مع مبادئ المحاكمة العادلة والحق في الدفاع، كما نصت عليها المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

 

ثالثا: مقارنات دولية في التنظيم الذاتي للصحافة

  1. المملكة المتحدة (IPSO):
    • هيئة مستقلة يُموّلها الناشرون وتضم ممثلين عن الجمهور والصحافة.
    • لا تُشرف عليها أي جهة حكومية، وتصدر تقاريرها وقراراتها بشكل علني وشفاف.
  2. ألمانيا (Presserat):
    • تأسست بقرار من الجسم الصحفي بعد الحرب العالمية الثانية، وتُمثل نموذجا للتنظيم الذاتي الأخلاقي.
    • لا تمتلك صلاحيات قانونية إلزامية، لكنها تفرض رقابة معنوية فعالة.
  3. السويد (Pressens Opinionsnämnd):
    • يُعد من أكثر المجالس استقلالية، وقراراته ملزمة أخلاقيا وتُنشر في وسائل الإعلام.
    • يجمع بين ممثلي الصحفيين والناشرين والجمهور، في نموذج تشاركي ديمقراطي.

 

القانون الحالي:

مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة
التعيين:          غالبية التعيين حكومي
التمويل:          من ميزانية الدولة
القرارات:         غير واضحة، ومفتوحة للتأويل السياسي

 

رابعا: التداعيات المحتملة لاعتماد المشروع بصيغته الحالية:

  • تقييد حرية الصحافة وممارسة الرقابة غير المباشرة
  • تقويض ثقة الصحفيين في مؤسسة يُفترض أنها تمثلهم
  • انتهاك المبادئ الدستورية وتهديد المسار الديمقراطي للمغرب
  • تشجيع ظواهر الانقسام داخل الجسم الصحفي
  • إضعاف مصداقية المغرب دوليا أمام المنظمات الدولية المعنية بحرية الإعلام.

 

خاتمة وتوصيات

مشروع القانون الجديد لا يعزز التنظيم الذاتي، بل يُكرس لنموذج هجين بين الرقابة والتنظيم، مما يُفقد المجلس هويته وشرعيته المهنية. وفي ظل هذه الوضعية، فإن المخرج يكمن في:

  1. إرجاع الصياغة إلى روح التنظيم الذاتي كما يُقرّه الدستور.
  2. تعزيز تمثيلية الجسم المهني داخل المجلس بنسبة لا تقل عن الثلثين.
  3. ضمان التمويل الذاتي للمجلس وتقييد التدخل الحكومي فيه.
  4. توضيح مساطر التأديب والطعون وفقا للمعايير الحقوقية الدولية.
  5. الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة بدل استنساخ أو اعتماد قانون رقابي هجين.
  6. الامتثال لتوصيات الهيئات الدولية مثل اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان فيما يخص استقلالية المؤسسات الإعلامية.

 

إنّ الدفاع عن التنظيم الذاتي ليس دفاعا عن امتيازات مهنية، بل دفاع عن حرية المجتمع في إعلام نزيه ومستقل، وهو ما لا يتحقق إلا بمجلس يُنتَج من قِبل الصحفيين، ويمثلهم، ويعمل لأجلهم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى