التنظيم الذاتي للصحافة في المغرب… هل حان وقت المراجعة الجذرية؟”
فواصل –
التنظيم الذاتي للصحافة في المغرب… هل حان وقت المراجعة الجذرية؟”
في خضمّ الجدل الذي أثاره التسريب الأخير المتعلّق بلجنة الأخلاقيات داخل أسوار اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر ( المجلس الوطني للصحافة )، لم يعد ممكنا الاستمرار في اختزال نقاش إصلاح الإطار القانوني المنظّم للمجلس في مجرد تعديلات تقنية. فحجم الاختلالات التي كُشف عنها، وتراكم السوابق التي سبقتها، يبيّنان بوضوح أنّ المشكلة أعمق من نصوص تحتاج إلى ترميم، وأنّ جوهر الإشكال يتعلق بطبيعة “التنظيم الذاتي” ذاته كما طُبّق في السياق المغربي، ومدى استقلاليته الفعلية عن الفاعلين السياسيين والإداريين وعن شبكات النفوذ داخل القطاع الإعلامي.
لقد صُمّم مفهوم التنظيم الذاتي في التجارب الديمقراطية ليكون آلية مهنية خالصة، تنبع شرعيتها من الجسم الصحافي نفسه، وتستند إلى قواعد الشفافية والمساءلة والأخلاقيات، دون أيّ وصاية من خارج المهنة. غير أن التجربة المغربية، رغم كونها خطوة مهمة عند انطلاقتها، لم تنجح في ترسيخ هذا المنطق، إذ ظلّت بنيته التنظيمية عرضة لتجاذبات انتخابية ضيقة، وملتبسة من حيث الحدود بين المهني والنقابي، وبين التأطير الأخلاقي وتدبير التوازنات. وتُظهر التسريبات الأخيرة أنّ بعض آليات اتخاذ القرار داخل أجهزة المجلس تحتاج إلى مراجعة معمّقة تعيد الاعتبار لفكرة “الهيئة الأخلاقية المستقلة” لا لهيئة تشتغل بمنطق الكواليس والتحالفات.
إنّ النقاش العمومي المطلوب اليوم لا ينبغي أن يقتصر على مراجعة مواد تتعلق بالانتخاب أو بالتصويت أو بمدة الانتداب، بل يجب أن يمتدّ إلى طرح أسئلة جوهرية: ما هي طبيعة الاستقلالية المطلوبة؟ هل تنظيم الصحافة شأن مهني خالص أم مجال تتحكم فيه مراكز خارج المهنة؟ وكيف نضمن ألا تتحول أجهزة التنظيم الذاتي إلى مواقع لتوازنات سياسية أو نقابية تُفرغ فكرة الأخلاقيات من محتواها؟
إنّ معالجة هذه الأسئلة تقتضي إعادة التفكير في فلسفة القانون نفسه، وفي إعادة بناء المجلس انطلاقا من مقاربة ترتكز على الاستقلالية أولا (ليس بمنطق الوزير)، ترتكز على المهنية والشفافية والتمثيلية الحقيقية لا الشكلية.
كما أنّ أي إصلاح جدي ينبغي أن يضع في صلبه إعادة الاعتبار للثقة، باعتبارها أساس الذراع الأخلاقية لمهنة الصحافة. فالثقة لا تُبنى بنصوص جامدة، بل بآليات واضحة للمساءلة، وبضمانات ضد تضارب المصالح، وبفصل حقيقي بين الهيئات التنظيمية والهيئات النقابية أو الحكومية. هذه الشروط، إن توفرت، يمكن أن تعيد للتنظيم الذاتي مكانته الطبيعية كآلية لحماية حرية الصحافة وحقوق الجمهور، لا لتدبير صراعات المهنة أو لتكريس نفوذ فئات محددة.
خلاصة أولى:
تُجمع التجارب الديمقراطية على أنّ التنظيم الذاتي الفعّال يقوم على استقلالية تامة عن الحكومة والأحزاب والنقابات، وعلى تمثيلية مهنية حقيقية تُفرزها انتخابات شفافة خالية من تضارب المصالح، مدعومة بآليات واضحة للمساءلة وعلنية القرارات وتعليلها. كما يستلزم هذا النظام فصلا صارما بين الوظائف الأخلاقية والمهام النقابية، واعتماد أعلى درجات الشفافية في التسيير ونشر التقارير الدورية، مع إشراك الجمهور باعتباره طرفا أصيلا في حماية حقه في المعلومة عبر آليات واضحة لتلقي الشكايات ومعالجتها. ويكتمل هذا البناء باعتماد مدوّنة أخلاقية صريحة تستند إلى المعايير الدولية، بما يضمن حماية حرية الصحافة وصيانة حقوق المجتمع ويُعيد الثقة في جدوى التنظيم الذاتي ودوره في تخليق المهنة.
الأكيد أن هذه المبادئ تشكل الأساس لأي نظام ديمقراطي فعّال للتنظيم الذاتي، وتظل المرجع الذي ينبغي أن يستحضرَه النقاش المغربي في لحظته الراهنة.
خلاصة ثانية:
في المحصلة، لن يكون لأي نقاش حول إصلاح التنظيم الذاتي معنى ما لم تُحسم المسألة من منبعها الحقيقي: غياب الإرادة السياسية لإطلاق صحافة مستقلة فعلا.
فالدولة التي لا تريد جسما مهنيا قويا وحُرّا ستستمر، بصمت أو بتدبير غير مباشر، في إنتاج مجالس شكلية تُدار بمنطق التوازنات لا بمنطق الأخلاقيات.
فمن دون قرار سياسي واضح يرفع اليد عن القطاع، ويوقف التدخلات الصامتة، ويمنح المجلس استقلاليته الفعلية لا الإسمية، فإن كل مراجعة قانونية ستظل مجرد طلاء خارجي يخفي البنية نفسها.
إنّ لحظة الحقيقة تفرض الاختيار: إمّا إرادة إصلاح جريء يعيد للصحافة مكانتها كسُلطة فعلية، سُلطة التحقيق والتقصي ونشر الحقيقة وفضح ملفات الفساد والمفسدين لتكون الملفات على مكاتب قضاء مستقل، وإمّا استمرار الوضع المعلّق حيث تتغير النصوص وتبقى الأعطاب كما هي.