بالعربي من باريس |
المثقف بين قضايا المجتمع ومغريات الحياة الحديثة
“إن المثقف يموت حينما يتخلى عن قضايا مجتمعه وعصره لينغمس كليا في ممارسة الحياة”، بهذه العبارة الخالدة أضاء الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي على أزمة المثقف في عصر يتسارع نحو الفردانية والانعزال. المثقف، الذي كان عبر التاريخ شاهدا على صراعات مجتمعه وحارسا للقيم الإنسانية، بات اليوم في كثير من الأحيان مترددا بين الانخراط في قضايا مجتمعه أو الركون إلى الراحة الشخصية وسط مغريات الحياة المعاصرة.
عندما يتنصل المثقف من دوره التنويري، يفقد المجتمع بوصلته الفكرية. فكما قال سقراط: “الحياة التي لا تُمحَّص لا تستحق أن تُعاش”، فإن المثقف الذي لا يطرح الأسئلة الكبرى ولا يثير النقاش حول قضايا العدالة، الظلم، والمصير الجماعي، يغيب عنه جوهر دوره الأساسي. إن غيابه عن هذه المعارك ليس مجرد تراجع فردي، بل فراغ في الضمير الجماعي.
الحياة الحديثة، التي تطغى عليها المادية والاستهلاك، جعلت المثقف أكثر عرضة للاندماج في هذه الدوامة على حساب الالتزام بقضايا المجتمع. لقد أصبح الكثير منهم سجناء “قفص الراحة”، كما وصفه جون بول سارتر، الذي رأى أن “الحرية هي ما تفعله بما يُفرض عليك”. ولكن بدلا من مقاومة القوى التي تستغل الفكر والثقافة لصالح السلطة أو السوق، نرى بعض المثقفين يقبلون بالواقع دون مقاومة.
المثقف الحقيقي هو من يسعى لتحويل الوعي الفردي إلى وعي جماعي، لأن الوعي، كما يرى هيغل، عملية تطور مستمرة. هنا تكمن مهمته الحقيقية، ليس فقط نقد الواقع، بل المساهمة في بناء نماذج فكرية تساعد على تجاوز الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية. وعلى الرغم من أن انسحاب المثقف قد يُفسَّر أحيانا كتأقلم مع عصر يعيد تشكيل أدوار الفكر، إلا أن هذا الانسحاب لا يُعفيه من مسؤوليته. فميشيل فوكو يذكرنا بأن “السلطة تُنتج الحقيقة”، ما يجعل من المثقف مُطالبا بفهم هذه البُنى وتفكيكها، بينما يؤكد جون راولز أن “العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية”، ما يجعل الدفاع عنها واجبا لا يمكن للمثقف التنصل منه.
حين يختار المثقف العزلة، فإنه يُساهم، وإن بطريقة غير مباشرة، في تطبيع الظلم وتعميق الفجوة بين الأفراد ومؤسساتهم. وكما قال ألبير كامو: “لا يمكن للإنسان أن يعيش دون تمرد”، فإن المثقف الذي لا يتمرد على العزلة أو المألوف يخون طبيعته التنويرية.
المثقف الحقيقي هو الذي يدرك أن دوره يتجاوز مجرد المعرفة أو النقد إلى التأثير الفعلي في مجتمعه، من خلال تقديم رؤى وأفكار تعيد تشكيل الوعي الجمعي. فهو ليس متفرجا على الأحداث، بل مشاركا فاعلا يسعى إلى تحليل الواقع وإيجاد حلول مبتكرة لقضايا المجتمع. ليكون المثقف صوتا مؤطرا ومسموعا، عليه أن يتقن فن التواصل بلغة واضحة ومؤثرة تصل إلى كافة شرائح المجتمع، وأن يوظف أدوات العصر، مثل الإعلام الرقمي والشبكات الاجتماعية، لنقل أفكاره. كما يجب أن يكون حضوره مشحونا بالمصداقية والشجاعة الفكرية، حيث لا يخشى الاصطدام بالتيارات السائدة إذا كانت تتعارض مع قيم العدالة والحرية.
المثقف الحقيقي هو ضمير حي يحمل مشعل التنوير ويُعيد بناء الثقة بين الناس ومؤسساتهم، ليصبح مرجعية أخلاقية وفكرية في زمن تغلب فيه الضوضاء على الحكمة وعلى الحق وعلى القانون وعلى العدالة…
حقّا، “دور المثقف ليس في فهم العالم فقط، بل في تغييره”.
بالعربي من باريس |