المشردون في باريس.. رؤية اجتماعية لمشكلة متجذرة في عاصمة الأنوار
بالعربي من باريس |
في شوارع باريس، تتجلى معالم الفقر في وجوه مئات، بل آلاف الأشخاص الذين يعيشون دون مأوى، المعروفين بـ “المشرّدين” أو “بدون مأوى ثابت”. هذه الظاهرة، التي ليست جديدة، تعكس إخفاقا اجتماعيا وسياسيا مستمرا، رغم جهود بعض الأطراف الفاعلة. من أصل هؤلاء الأفراد وتوزيعهم الجغرافي إلى الأدوار المختلفة التي تلعبها العائلات والبلديات والسياسيون، تستعرض هذه الرؤية الاجتماعية مشكلة متعددة الأبعاد.
يتركز وجود المشردين في مناطق معينة من باريس. تشمل المناطق الأكثر وضوحا Canal saint Martin، ومحيط محطات القطار مثل (Gare du Nord, Gare de Lyon)، وبعض أحياء شمال شرق باريس مثل الدائرتين 18 و19.
توفر هذه المواقع، التي تشهد حركة مستمرة، نوعا من التخفي وقربا من مؤسسات المساعدة الاجتماعية، مثل مراكز الإيواء الطارئة. ومع ذلك، يفضل جزء متزايد من المشردين الابتعاد عن هذه الأماكن المزدحمة، واللجوء إلى أماكن أخرى مثل: Quais de Seine, Canal Saint Denis تحت الجسور أو المناطق النائية على أطراف المدينة.
المشردون في باريس ليسوا مجموعة متجانسة. تظهر الإحصائيات أن حوالي 40% منهم يحملون الجنسية الفرنسية، وغالبا ما ينحدرون من عائلات تعاني من صعوبات، أو تعرضوا للبطالة أو تفكك أسري. أما الأجانب، ومعظمهم من شمال إفريقيا وأوروبا الشرقية، فيشكلون حوالي 30% من هذه الفئة. وغالبا ما يفرون من صراعات أو أزمات اقتصادية وسياسية في بلدانهم الأصلية. علاوة على ذلك، ظهرت فئة جديدة تُعرف بـ “العمال الفقراء”، وهم أشخاص يعملون في وظائف منخفضة الأجر ولكنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف السكن بسبب الارتفاع الباهظ في أسعار العقارات الباريسية.
وتلعب التفككات الأسرية دورا رئيسيا في تشرد الأفراد. الطلاق، العنف الأسري، أو الرفض العائلي التي تدفع مجتمعة العديد إلى الشارع..
بالنسبة للشباب، غالبا ما تكون القطيعة مع الأسرة هي السبب الأول للتشرد. وتحاول السياسات العامة سدّ هذه الفجوة من خلال دعم مبادرات الإيواء الأسري، لكنها تظل حلولا محدودة.
وغالبا ما تقوم البلديات الباريسية، بتنفيذ سياسات مختلفة لدعم المشردين، مثل افتتاح مراكز إيواء طارئة وتوزيع الوجبات. لكن هذه الجهود لا تلبي الطلب المتزايد، حيث تعيق الحلول طويلة المدى، مثل توفير السكن الاجتماعي، العقبات المالية والإدارية الثقيلة.
الملحوظ أن السياسات الفرنسية تتأرجح بين التعاطف الظاهري وغياب الخطوات العملية. ورغم إطلاق خطط وطنية، مثل خطة “السكن أولا”، التي تهدف إلى تقليل عدد المشردين من خلال تسهيل وصولهم إلى سكن دائم، إلا أن النتائج ما زالت متأخرة، وغالبا ما تصطدم خطابات السياسيين حول مكافحة الفقر بنقص الإرادة أو الموارد.
إن أزمة المشردين في باريس هي نتاج تداخل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ورغم أن البلديات والجمعيات تلعب دورا في تخفيف معاناة المشردين اليومية، فإن الحلول المستدامة تتطلب إصلاح السياسات العامة المتعلقة بالإسكان والتوظيف والدعم الأسري.
حتى ذلك الحين، تظل شوارع باريس موطنا لهؤلاء الأفراد الذين يعيشون في حالة انتظار دائم، رمزا لانقسام اجتماعي لا يزال عميقا في عاصمة الأنوار.
مصادر الإحصاءات:
المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE)
المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية (INED)
مؤسسة “آبي بيير” (Fondation Abbé Pierre)