الهاتف الذكي: قائد التحول الإعلامي ومفترق طرق لمستقبل الصحافة
بالعربي من باريس |
الهاتف الذكي: قائد التحول الإعلامي ومفترق طرق لمستقبل الصحافة
مع دخول العالم عام 2022، تجاوز الهاتف الذكي دوره كوسيلة اتصال بسيطة، ليصبح الوسيلة الأبرز للحصول على المعلومات على مستوى العالم.
فوفقا لدراسة أجريت في 46 دولة، يستخدم 66% من المستطلعين في فرنسا هواتفهم الذكية للوصول إلى الأخبار والمعلومات. هذه النسبة تعكس التحول الجذري في عادات استهلاك الإعلام، حيث أصبح الهاتف الذكي أول نافذة يطل منها الإنسان على العالم كل صباح.
لم يأت هذا التحول من فراغ؛ فالابتكارات التكنولوجية وتوسع الإنترنت لعبا دورا محوريا. وفقا لتقرير Newman et al. لعام 2022، لم يعد التلفزيون أو الصحف الورقية المصدر الرئيسي للمعلومة. فقد حل الهاتف الذكي محل هذه الوسائل بفضل سرعته، وتعدد تطبيقاته، وقدرته على توفير محتوى شخصي يناسب تفضيلات المستخدمين، وأكد التقرير أن المحرك الأكبر لهذا التحول هم الشباب.
وفقا لدراسة الممارسات الثقافية لدى الفرنسيين الصادرة عن وزارة الثقافة الفرنسية عام 2020، أصبح 59% من الشباب (15-24 سنة) يعتمدون على الفيديوهات عبر الشبكات الاجتماعية كمصدر رئيسي للأخبار. في الوقت ذاته، تراجعت نسبة متابعة التلفزيون إلى 22% فقط بين هذه الفئة.
هذه الأرقام تشير إلى أن الأجيال الجديدة لم تعد تنجذب إلى الوسائل التقليدية بقدر ما تبحث عن محتوى سريع، بصري، ومتوفر دائما.
عاشت جريدة لوموند، التي تعد واحدة من أكثر الصحف شهرة ومصداقية عالميا، عاشت تجربة لافتة في التكيف مع التحولات الرقمية.
فقد تأسست الجريدة عام 1944، وظلت لعقود رائدة في الصحافة المكتوبة الفرنسية. لكن مع تراجع الإقبال على الصحف الورقية منذ بداية الألفية الجديدة، اضطرت لوموند لإعادة التفكير في استراتيجيتها.
تُعتبر لوموند من أبرز الصحف الوطنية اليومية في فرنسا، حيث سجلت في عام 2023 انتشارا مدفوعا بلغ حوالي 489 ألف نسخة يوميا، من بينها 404 ألف نسخة رقمية، ما يجعلها الأولى بين الصحف الفرنسية من حيث الانتشار.
وتسعى الجريدة إلى تعزيز قاعدة مشتركيها الرقميين، حيث وضعت هدف الوصول إلى مليون مشترك بحلول نهاية عام 2023، بعد أن كان لديها 500 ألف مشترك في 2021، منهم 414 ألف عبر النسخة الرقمية.
كان للتكنولوجيا أثر كبير على قراءة الصحافة المكتوبة، إذ شهدت الصحف التقليدية تحولا واضحا نحو الرقمية.
في حالة لوموند، يشكل المشتركون الرقميون الجزء الأكبر من إجمالي المبيعات. كما تعتمد الصحيفة على موقعها الإلكتروني وتطبيقها لجذب أكثر من 20 مليون زيارة يوميا، وهو ما يُظهر التحول في عادات استهلاك المحتوى من الورقي إلى الرقمي.
هذا التوجه الرقمي يعكس التغيرات الأوسع في الصناعة الصحفية، حيث أصبح الاعتماد على التكنولوجيا ضروريا لتعزيز الانتشار والوصول إلى جمهور أوسع. ومع ذلك، تبرز تحديات جديدة، مثل المصداقية في عصر انتشار الأخبار المزيفة، وضرورة استثمار الصحف في أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات وتعزيز التفاعل مع القراء.
وتظهر الإحصائيات أن جريدة لوموند استفادت أكثر من التحولات الرقمية، وذلك من خلال تعزيز وجودها عبر الإنترنت، هذا في الوقت الذي لاحظت فيه انخفاظ مبيعات النسخ الورقية، وهو ما دفعها لإطلاق تطبيقات تفاعلية ونسخة محسّنة للهواتف الذكية، مما ساهم في جذب فئة الشباب الذين يفضلون القراءة الرقمية. كما أن الاشتراكات الرقمية تمثل الآن أكثر من 60% من إجمالي إيرادات الصحيفة.
رغم نجاحها الرقمي، تواجه لوموند نفس التحديات التي تواجهها الصحافة التقليدية في العصر الرقمي. خوارزميات منصات مثل “فيسبوك” و”جوجل”؛ تعطي الأولوية للأخبار الجذابة والمثيرة، مما يجعل الأخبار الموثوقة أقل ظهورا أحيانا. ولهذا، تستثمر الجريدة في تعزيز فريقها للتحقق من المعلومات، وتقديم تقارير معمقة ومقالات استقصائية تنافس المحتوى السريع المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.
فوائد التكنولوجيا ظاهرة، وفتحت الباب أمام فيض هائل من المعلومات. ومنصات مثل “فيسبوك” و” X تويتر سابقا” تعتمد على خوارزميات تفضل المحتوى الجذاب والسريع الانتشار، بغض النظر عن مدى مصداقيته. وهذا يضع الصحفيين أمام مسؤولية مضاعفة لتقديم محتوى يوازن بين الجاذبية والدقة.
على سبيل المثال، أطلقت بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل BBC وThe New York Times منصات للتحقق من الأخبار وتعزيز وعي الجمهور. كما بدأت بعض وسائل الإعلام في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الأخبار ورصد المعلومات المغلوطة.
الأكيد أنه مع هذا التحول، تواجه الصحافة التقليدية مستقبلا ضبابيا. من ناحية، بات عليها أن تنافس منصات رقمية ضخمة مثل “تيك توك” و”يوتيوب” التي تقدم محتوى ترفيهيا ومعلوماتيا في آن واحد. ومن ناحية أخرى، يجب أن تحافظ على مصداقيتها وسط انتشار الأخبار الزائفة (Fake News).
تقرير صادر عن منظمة Reuters Institute لعام 2023 كشف أن 72% من المستخدمين يجدون صعوبة في التمييز بين الأخبار الموثوقة والمزيفة على الشبكات الاجتماعية. هذا التحدي يدفع الصحافة التقليدية إلى استثمار المزيد في التحقق من المعلومات وتقديم محتوى عالي الجودة يحظى بثقة الجمهور، الأمر الذي يوجب، في نفس الوقت، على الصحفيين اكتساب مهارات جديدة تشمل تحليل البيانات واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. لأن الصحافة التقليدية لن تختفي، لكنها بحاجة إلى التطور لتظل قادرة على التأثير في عصر تتصدر فيه الشاشات الصغيرة المشهد الإعلامي.
تعكس قصة لوموند، وغيرها من مؤسسات الصحافة الورقية، التحول الكبير الذي يعيشه الإعلام اليوم. ونجاح الصحافة المكتوبة يعتمد على قدرتها على التأقلم مع متطلبات العصر الرقمي، مع الحفاظ على دورها كمصدر للمعلومات الموثوقة. فبينما تغير التكنولوجيا أساليب القراءة، يبقى الجمهور في حاجة إلى محتوى دقيق وعميق، وهو ما يجعل الصحافة أمام تحدّ مزدوج: مواكبة الرقمنة والحفاظ على المصداقية.
لم يغير الهاتف الذكي فقط طريقة استهلاك المعلومات، بل أعاد تشكيل مفهوم الإعلام ذاته. الصحافة تقف اليوم عند مفترق طرق: بين مواكبة الرقمنة ومواجهة تحديات المصداقية. وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن الصحافة من الاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز دورها كمصدر موثوق؟ أم ستتراجع أكثر في ظل زحف المحتوى الرقمي غير المراقب؟
معلومات عن المصادر وروابط مواقع بيانات للموضوع:
بالعربي من باريس |