تعديلات على المسطرة الجنائية وتقييد دور الجمعيات في مكافحة الفساد

فواصل..
حين يُقيّد صوت المراقبة: التعديلات على المسطرة الجنائية وتقييد دور الجمعيات في مكافحة الفساد
في خطوة مثيرة للجدل، تم تمرير تعديل في مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23، الثلاثاء 13 ماي، بلجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات بمجلس النواب، تعديل يقضي بمنع جمعيات المجتمع المدني من تقديم شكايات تتعلق بجرائم الفساد المالي، ما لم تكن متضررة مباشرة من الوقائع موضوع الشكاية. هذا التعديل الذي يبدو في ظاهره إجراءً تقنيا، يخفي في عمقه تضييقا خطيرا على الدور الحيوي الذي تلعبه هذه الجمعيات في مجال مراقبة المال العام وتعزيز الشفافية والمساءلة.
وتنص المادة الثالثة بالخصوص، على أن إقامة الدعوى العمومية وممارستها أصبح اختصاصا حصريا للنيابة العامة، كما تقضي بأنه لا يمكن إجراء الأبحاث أو إقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم المتعلقة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك.. ما يعني تقييدا مباشرا لدور الجمعيات المتخصصة في مراقبة وجمع المعطيات ذات الصلة بشبهات الفساد.
لقد كانت الجمعيات الحقوقية، وعلى رأسها الجمعيات المتخصصة في مكافحة الفساد وتبديد الأموال العمومية، أحد أبرز الفاعلين المدنيين الذين ساهموا في فضح تجاوزات خطيرة، ولفتوا أنظار الرأي العام والمؤسسات الرقابية إلى اختلالات مالية وإدارية في مختلف الجهات والمؤسسات العمومية. وعبر آليات التبليغ، وتقديم الشكايات، وتنظيم الحملات التحسيسية، حيث تمكنت هذه الجمعيات من تحريك المتابعات القضائية في ملفات كبرى، مما أعاد الاعتبار لدور المجتمع المدني كمراقب ومساهم في ترسيخ الحكامة الجيدة.
غير أن التعديل المذكور يطرح أسئلة جوهرية كان ينبغي أن تكون محل نقاش عمومي وقانوني جاد:
■ كيف يمكن تبرير منع جمعية متخصصة في مكافحة الفساد من التبليغ عن جريمة تتعلق بتبديد أموال عمومية، علما أن هذه الأموال تعود ملكيتها إلى الشعب؟
■ أليس في هذا التقييد خرقا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليه في الدستور المغربي؟
■ أين يتجلى احترام الالتزامات الدولية للمغرب، لا سيما اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تنص في مادتها 13 على ضرورة تمكين المجتمع المدني من الإسهام في جهود مكافحة الفساد؟
■ هل يشترط المشرّع “الضرر الشخصي المباشر” لتفعيل مبدأ التبليغ عن الجرائم؟ وما مصير مبادئ المصلحة العامة، وحماية المال العام، والحق في الرقابة الشعبية؟
إن التضييق على الجمعيات، من خلال هذا التعديل، لا يعدو أن يكون محاولة لحرمان المجتمع المدني من أدوات قانونية مشروعة، هي جزء من أدواره الدستورية والرقابية. فالدستور المغربي في فصله 12 يعترف للجمعيات بدور أساسي في إعداد وتفعيل وتقييم السياسات العمومية، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون تمكينها من حق التبليغ والتقاضي.
وعلاوة على البعد القانوني، فإن هذا التعديل يمس أيضا بمبدأ الشفافية والوقاية من الإفلات من العقاب، ويشجع على مزيد من التحصين غير المشروع للمفسدين، من خلال تكميم أفواه من يراقب ويكشف، شأنه في ذلك شأن العمل الصحافي الاستقصائي.
فهل يمكن الحديث عن دولة الحق والقانون دون تمكين الفاعلين المدنيين من أدوات الاشتغال الفعّالة.
إن تقييد الجمعيات المتخصصة في رصد وتوثيق الفساد المالي هو رسالة سلبية لا تخدم جهود الإصلاح ولا تطلعات المواطنين نحو مغرب أكثر عدلا وشفافية.
وعليه، فإن الواجب القانوني والأخلاقي يقتضي تحصين حقوق الجمعيات في أداء دورها الرقابي باعتبارها جزءا لا يتجزأ من المنظومة الوطنية لمحاربة الفساد.
“تكميم صوت المجتمع المدني هو في جوهره تكميمٌ لصوت الأمة.”