حديث عن الضفة الأخرى.. متى ستكون لدينا نحن العرب جرأة “جاستن ترودو”؟
سيُسجل يوم 6 يناير 2025 في التاريخ السياسي لكندا: رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو" يعلن استقالته.
بالعربي من باريس |
حديث عن الضفة الأخرى.. متى ستكون لدينا نحن العرب جرأة “جاستن ترودو”؟
سيُسجل يوم 6 يناير 2025 في التاريخ السياسي لكندا: رئيس الوزراء الكندي “جاستن ترودو” يعلن استقالته.
خطوة تعكس نضجا سياسيا نادرا، قام بها ترودو ببساطة وأسلوب راق جدا.
بعد سنوات طويلة في السلطة، اختار أن يفسح المجال لغيره، إدراكا منه أن لكل زعيم سياسي مدة صلاحية. هذا القرار أثار الإعجاب والاحترام، وفتح المجال للتساؤل العميق حول الواقع في المجتمعات العربية، حيث تُصرّ النخب السياسية على التشبث بالسلطة رغم فشلها المتكرر.
في الدول الديمقراطية مثل كندا، تُعتبر الاستقالة فعلا مسؤولا ودليلا على التواضع والوفاء تجاه الشعب.
أما في العالم العربي، فيبدو أن هذه الكلمة لا تنتمي إلى القاموس السياسي. فإمكانية الاستقالة تغيب عن الفعل السياسي، ونتيجة لذلك، نجد أن القادة، حتى بعد عقود من الإخفاقات المدوية، يواصلون التشبث بالسلطة، غالبا على حساب شعوبهم.
يكفي النظر إلى التاريخ الحديث لنرى ميْلا واضحا لدى النخب السياسية للبقاء في مناصبها مهما كانت الظروف. سواء كان ذلك من خلال إصلاحات شكلية، أو تعديلات دستورية مفصلة حسب رغباتهم، أو حتى القمع العنيف، يتجاهل هؤلاء القادة دعوات التغيير. وبدلا من ذلك، يختبئون وراء شعارات شعبوية أو مبررات مثل “حماية الاستقرار الوطني”، في حين تعاني شعوبهم من الفقر والتشرد واليأس.
فمن خلال إعلانه عن الاستقالة، أظهر ترودو أنه لا يعتبر نفسه ضروريا لمستقبل بلاده. هذه الفلسفة تختلف تماما عن تلك السائدة لدى القادة العرب، الذين يدعون غالبا أنهم المنقذون الوحيدون الذين لا يمكن الاستغناء عنهم.
وتصرف ترودو يذكرنا بأن السياسة ليست وظيفة أبدية، بل هي خدمة مؤقتة. وعندما تصل هذه الخدمة إلى حدودها، يصبح من الشرف ترك المجال للآخرين.
في المقابل، تُصبغ الثقافة القيادية في العالم العربي بمزيج من عبادة الشخصية وعدم الثقة في التناوب الديمقراطي. وهذا يعكس ضعفا هيكليا في المؤسسات وغياب الثقة في قدرة الأنظمة على العمل دون وجود شخصية مهيمنة.
إذا كانت التجربة الكندية تقدم درسا، فهو أهمية وجود مؤسسات قوية وثقافة ديمقراطية متجذرة. هذان العنصران هما الضامن للتناوب السلمي والبنّاء. أما بالنسبة للدول العربية، فإن الطريق واضح: تعزيز المؤسسات، نشر ثقافة الكفاءة، وإعادة تعريف السياسة كخدمة وليست امتيازًا.
لكن هذا لا يقتصر على لوم القادة فقط. على الشعوب أيضا أن تلعب دورها من خلال المطالبة بمزيد من الشفافية والمساءلة والمسؤولية. بمعنى آخر، يجب بناء بيئة تجعل من الاستقالة أمرا ممكنا بل ومشرّفا.
استقالة “جاستن ترودو” هو تذكير قوي بأن السياسة يمكن أن تُمارس بكرامة وتواضع. ويدعو المجتمعات العربية إلى إعادة التفكير في ممارستها وتتبعها للسياسة، وبالتالي قدرتها على المطالبة بتغيير حقيقي.
هل يمكن للنخب العربية أن تتعلم من هذا المثال؟ ربما، ولكن فقط إذا وجد المواطنون أنفسهم الجرأة لتحويل هذا التساؤل إلى مطلب.
متى سنتجرأ نحن العرب على اتخاذ موقف مماثل؟ الإجابة تعتمد علينا جميعا.
بالعربي من باريس |