فواصل

حين تتحوّل “الاستقلالية” إلى قناع لإخفاء المسؤولية

فواصل

(بخصوص هُروب الوزير بنسعيد في جوابه عن فضيحة لجنة الأخلاقيات)

حسن اليوسفي المغاري

من حق وزير الشباب والثقافة والتواصل أن يناور بالكلمات، وأن يستحضر قاموسا كاملا من المفاهيم الفضفاضة عن “استقلالية المؤسسات” ليُبعد الحكومة عن أي مسؤولية فيما آل إليه حال الصحافة والنشر في المغرب.

لكن الحق الأهم والأعظم هو حق الرأي العام في كشف هذا التلاعب، وحق المهنيين ورجال القانون في تفكيك سردية حكومية تبني استقلالية تعلنها في الخطاب بينما تنقضها في الممارسة.

فحين يخرج الوزير في جوابه يوم الإثنين 24 نونبر 2025 داخل قبة البرلمان، ليؤكد بثقة أنّ المجلس الوطني للصحافة “مؤسسة مستقلة”، لا يحق للحكومة التدخل في صلاحياتها، فإنه يتحدث عن استقلالية على الورق، استقلالية مجردة من أبسط شروطها الدستورية والمؤسساتية. فالاستقلال لا يُقاس بالتصريحات، بل يُقاس بمن يُعيِّن، ومن يُمدِّد، ومن يُوجِّه، ومن يملك سلطة إعادة تشكيل المؤسسة.

 ■ ■ اللجنة المؤقتة: تدخّل حكومي مغلّف بخطاب الاستقلال

السؤال الذي يتهرب الوزير من الإجابة عنه بسيط ومباشر:

من عَيّن اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر؟

أليست الحكومة؟

من مدد لها رغم اعتراض المهنيين والهيئات والمنظمات؟

أليست الحكومة؟

من فرض تركيبتها ودافع عن بقائها أكثر مما دافعت عن وسائل الإعلام نفسها؟

أليست الحكومة؟

ومع ذلك، تطلب الحكومة من هذه اللجنة أن “تمارس استقلاليتها”!!، وأن تفصل في الطعون والشكايات، وأن تتخذ قرارات تمس الحقوق المهنية والأخلاقية، ثم تعود لتقول للمتضررين: “اذهبوا إلى القضاء.. فالمجلس مستقل ولا نتدخل في عمله”.

أليس هذا ضربا من العبث المؤسساتي؟

كيف يمكن أن تعيّن السلطة التنفيذية أعضاء هيئة ما، ثم تعلن براءة سحرية من تأثيرها عليهم؟

 ■ ■ قانون جديد… أم هندسة جديدة للوصاية؟

الدفاع الشرس الذي تخوضه الحكومة من أجل تمرير القانون الجديد لإعادة تشكيل المجلس الوطني للصحافة يطرح سؤالا أكثر عمقا:

هل تسعى السلطة التنفيذية فعلا إلى تعزيز استقلال المجلس؟

أم أنها تعيد هندسة “التنظيم الذاتي” بطريقة تجعل المجلس أقرب إلى هيئة تحت الوصاية منه إلى مؤسسة مهنية مستقلة؟

إن إعادة تعريف الاستقلالية على مقاس السلطة لا يصنع مؤسسات قوية، بل يصنع أجهزة صورية تُستعمل عند الحاجة لإضفاء شرعية على قرارات سياسية مسبقة.

 ■ ■ خطاب حكومي… يغسل اليدين من كل شيء

جواب الوزير في البرلمان لم يكن توضيحا بقدر ما كان محاولة سياسية لشفط المسؤولية من جذورها.

فالواقع أن الحكومة تتحمل القسط الأوفر مما تعيشه الصحافة اليوم:

هي من علّقت الانتخابات.

وهي من صنعت “حلًّا مؤقتا” تحوّل إلى حالة دائمة.

وهي من احتكرت سلطة التشكيل والتمديد والتوجيه.

وهي من وضعت تصورا أحاديا لإصلاح المنظومة المهنية.

ورغم ذلك، ترفع الحكومة شعار: “المجلس مستقل ونحن لا نتدخل”.!.

هذا ليس خطاب استقلالية، بل خطاب تبرُّؤ مقنّع بثوب مؤسساتي.

 ■ ■ الأسئلة التي تضع النقاش في حجمه الحقيقي

أمام هذا المشهد، تبرز أسئلة لا يستطيع الوزير، مهما أتقن اللعب بالكلمات، أن يتجاوزها:

◇ كيف تكون المؤسسة مستقلة وهي مُعيّنة بالكامل من طرف الحكومة؟

◇ ما معنى استقلالية دون شرعية انتخابية ودون محاسبة ذاتية ودون ضمانات قانونية؟

◇ من يحاسب اللجنة المؤقتة؟ ومن يحاسب من عيّنها؟

◇ لماذا تحرص الحكومة على البقاء “وصيا ناعما” على قطاع يُفترض أن يُسيّر نفسه بنفسه؟

هذه أسئلة لا تحتاج إلى “بلاغة”، عفوا.. مراوغة سياسية، بقدر ما تحتاج إلى شجاعة مؤسساتية، وشجاعة الاعتراف بمسؤولية سياسية حقيقية.

 ■ ■ خلاصة القول

الأزمة ليست تقنية… بل أزمة تصور

لسنا أمام مجرد خلاف حول طريقة انتخاب المجلس الوطني للصحافة.

نحن أمام أزمة أعمق:

أزمة تصوّر حكومي لطبيعة التنظيم الذاتي، ولحدود تدخل السلطة التنفيذية، ولحق المهنيين في إدارة مستقبل مهنتهم دون وصاية مموّهة.

وإلى أن تُعاد الأمور إلى نصابها، سيظل مفهوم “الاستقلالية” الذي ردّده الوزير، أشبه بقناع سياسي أكثر منه مبدأ مؤسساتيا.

الوزير اليوم لم يقدم جوابا برلمانيا بقدر ما قدم “مرافعة” سياسية لتبرئة الحكومة من أزمة كانت هي أحد صناعها الأساسيين.

المطلوب الآن ليس خطابا عن الاستقلالية، بل كشف البنية التي تجعل من المجلس الوطني للصحافة مؤسسة معلّقة بين الوصاية والفراغ.

وإعادة فتح النقاش حول إصلاح جذري حقيقي وليس إصلاحا تجميليا، يبدأ من سؤال بسيط:

من يملك السلطة على الصحافة؟

ومن هنا يجب أن تبدأ المحاسبة.

وسيظل النقاش مفتوحا أمام كل من يملك الجرأة على القول:

لا وجود لاستقلالية تُعيَّن… ولا لاستقلال يُصنع في مكاتب الحكومة أو في دهاليز كنا نقول عنها مظلمة، لكنها صرت واضحة إلا على من يضع نظارات سوداء لإخفاء الحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى