فواصل

حين يُشيّع المغرب صحافييه الشرفيين بينما تُكرّمهم الديمقراطيات

مقال نُشر على صفحات أسبوعية الأيام عدد 1157 / 25 دجنبر 2025

فواصل –

حين يُشيّع المغرب صحافييه الشرفيين بينما تُكرّمهم الديمقراطيات

حسن اليوسفي المغاري –

 

في كل الديمقراطيات الحقيقية، يُنظر إلى الصحافي الشرفي باعتباره جزءا من الرأسمال المهني والمعنوي للمجتمع، لا مجرد رقم تقاعدي. تُعامل هذه الفئة بكثير من الاحترام لأنها تختزن ذاكرة المهنة، وأرشيف التحولات السياسية، وخبرة يصعب تعويضها.

في ألمانيا، يُعاد إدماج الصحافيين المتقاعدين في غرف التحرير بوصفهم مستشارين للمضامين، ومراقبين لأخلاق المهنة، ومكوّنين دائمين للصحافيين الشباب. في الدول الإسكندنافية، تُخصص لهم برامج دعم اجتماعي متقدّمة، تشمل تغطية صحية كاملة وتعويضات تسمح لهم بحياة كريمة. وفي فرنسا، لا تزال الروابط المهنية للصحافيين القدامى تُعامل كقوة اقتراحية، تُستشار في إصلاح التشريعات وتفكيك الإشكالات المهنية الكبرى.

هذا ما يحدث في الديمقراطيات. أمّا في المغرب، فالصورة قاتمة إلى حدّ يُشبه الإهانة.

الصحافي الشرفي هنا لا يحظى باعتراف مؤسساتي ولا حماية اجتماعية، ولا يُنظر إليه كقيمة مضافة. بل يُدفع نحو الهامش بطريقة ممنهجة: لا حضور في مجالس التحرير، لا اعتبار في مسارات النقاش المهني، لا دور في تأطير الأجيال الجديدة، ولا حتى برامج دعم اجتماعي تحترم سنوات العمل التي أفناها داخل المهنة.. بل وحتى مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، لا يتضمن أية إشارة اتجاه هذه الفئة، وكأن الدولة، ومعها قطاع الإعلام، قررا التخلّص من ذاكرة الصحافة، وإقصاء كل من يحمل في تاريخه مواقف صلبة تجاه السلطة، أو دفاعا واضحا عن استقلالية الكلمة، أو شغفا أخلاقيا لم يعد مرغوبا في زمن “المحتوى السريع”.

لقد تحوّل “تقاعد” الصحافيين في المغرب إلى عملية طرد ناعم، تُقصى فيها التجربة لصالح جيل جديد يُراد له أن يعمل بلا مرجعية ولا بوصلة، في قطاع أصبح أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

من المفارقات المؤلمة أن الصحافي الشرفي المغربي يُعامل اليوم أسوأ بكثير من نظيره في دول تُنفق أقل منا على الإعلام، لكنها تُقدّر المعرفة والخبرة. بينما نحن، في بلد يتغنى بالإصلاح، نُمارس نوعا من التصفية الرمزية تجاه من صنعوا المهنة طيلة عقود.

الحقيقة المرة أن تهميش الصحافي الشرفي في المغرب ليس حادثا عابرا ولا خللا إداريا، بل اختيار بنية كاملة: اختيار لإضعاف الذاكرة المهنية، اختيار لقطع جسور الخبرة، اختيار لإعادة تشكيل الصحافة بمعزل عمّن قاوموا الرداءة والانحراف وتحكم المال السياسي.

والنتيجة؟
صحافة بلا مرجعيات، بلا أخلاقيات، بلا ذاكرة، صحافة تُعاد هندستها من الصفر، لكن خارج يد من يعرفون أصول البناء.

إن إعادة الاعتبار للصحافيات والصحافيين الشرفيين ليست واجبا أخلاقيا فقط، بل شرطا لبقاء المهنة نفسها. فبلد يهمّش حكماءه وذاكرته وحرّاس تقاليده المهنية، إنما يُفرغ الصحافة من معناها، ويفتح الباب واسعا أمام التفاهة والارتهان والتوجيه غير المهني.

في النهاية، السؤال الذي يجب أن يُطرح بلا مواربة:

هل يريد المغرب فعلا صحافة قوية أم يريد فقط صحافة مُطيعة؟

لعلّ المعاملة المذلّة للصحافي الشرفي اليوم تعطي الجواب دون حاجة إلى كثير تأويل.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى