صوت واحد يذبح الصحافة المغربية

فواصل –
صوت واحد يذبح الصحافة المغربية
عندما تُمرَّر القوانين بالتهريب وبالجبن السياسي
بفارق صوت واحد فقط (6 أصوات مقابل 5)، قررت الحكومة المغربية الإثنين 22 دجنبر 2025 أن تذبح أي أمل في صحافة مستقلة ومنظمة ذاتيا.. ستة أصوات مقابل خمسة، وغياب فاضح يقارب نصف الأعضاء (9 أعضاء من أصل 20) عضوا من الأغلبية الحكومية نفسها.
هكذا صادقت لجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية بمجلس المستشارين على مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة. لا بالإقناع، لا بالتوافق، لا حتى بأغلبية تمنحه شرعية نسبية، بل بالتهريب التشريعي الفجّ والجبن السياسي المفضوح.
صوت واحد! هذا ما فصل بين مشروع يرفضه غالبية المهنيين وبين تحوله إلى قانون. صوت واحد وغياب تسعة حسم مصير مهنة بأكملها، في مشهد يضاهي أسوأ ممارسات التلاعب التشريعي.
صوت واحد سيُحاسب عليه التاريخ كل من ساهم في هذه المهزلة، سواء بالتصويت المباشر أو بالهروب الجبان، من مجلس النواب ابتداء إلى مجلس المستشارين انتهاء.
الغيابات الفاضحة… عندما يرفض نواب الأغلبية مشروع حكومتهم
لنتوقف مليا عند هذا الرقم الذي يختزل حجم الكارثة: 9 أعضاء من الأغلبية الحكومية نفسها تغيبوا عن التصويت، ليس لأنهم كانوا مشغولين بشؤون أهم، ولا لأن الموضوع لا يعنيهم، بل لأنهم ببساطة لا يقتنعون بالمشروع ولا يؤمنون بصلاحيته، لكنهم في الوقت نفسه لا يملكون الشجاعة السياسية للتصويت ضده علنا.
هذا هو المأزق الأخلاقي البائس الذي يعيشه نواب الأغلبية: يعرفون أن المشروع معيب ومرفوض من المهنيين، يدركون أنه يتجاهل مطالب الصحفيين والمؤسسات المهنية، يستشعرون أنه سيولد ميتا فاقدا للشرعية، لكن “الانضباط الحزبي” و”الولاء الأعمى للحكومة” يمنعهم من قول “لا” بصوت مسموع. فماذا يفعلون؟ يختارون الحل الأسهل والأكثر جبنا: الغياب.
هذه الغيابات ليست “مشبوهة” بالمعنى التآمري، بل هي أكثر فضيحة وأشد خطورة من ذلك. إنها اعتراف ضمني صارخ بفساد المشروع وعيوبه البنيوية، إقرار صامت بأن ما يحدث خطأ تاريخي لا يُغتفر، لكنهم يفضلون الهروب من المسؤولية بدلا من مواجهتها بشرف. يريدون أن يُمرَّر القانون دون أن تُسجل أسماؤهم في سجل العار كمؤيدين له، ودون أن يتحملوا تبعات معارضته الصريحة.
هذا الموقف المخزي، بقدر ما يكشف عن ضعف وانعدام مبدئية هؤلاء النواب، يكشف أيضا عن أزمة شرعية أعمق وأخطر: الحكومة تُمرر قانونا لا تقتنع به حتى أغلبيتها البرلمانية الخاصة. فإذا كان نواب الأحزاب الحكومية أنفسهم يهربون من التصويت لصالح مشروع حكومتهم، ويفضلون الغياب على المواجهة،
فماذا يقول ذلك عن شرعية هذا المشروع اللاشرعي؟ وماذا يقول عن الديمقراطية المزعومة التي يُفترض أن تحكم عمل المؤسسات؟
هل هذه هي الديمقراطية التي نتفاخر بها؟ قوانين تُمرَّر بصوت واحد، بغيابات نوابها أنفسهم، وبرفض مطلق لــ 139 تعديلا برلمانيا؟ هذا ليس عملا تشريعيا، بل انقلاب على أبسط قواعد العمل الديمقراطي.
الوزير.. استبداد بيروقراطي في أبهى صوره
موقف الوزير محمد مهدي بنسعيد يستحق أن يُدرّس في كليات العلوم السياسية كنموذج صارخ للاستبداد البيروقراطي والغطرسة المؤسساتية. رفض مئة وتسعة وثلاثين تعديلا دفعة واحدة، دون نقاش حقيقي، دون تبرير منطقي، دون أدنى محاولة جادة للبحث عن أرضية مشتركة أو نقاط التقاء. وكأن الديمقراطية، في قاموسه الشخصي، تعني أن يملي الوزير ما يشاء على الجميع، وعلى الآخرين – برلمانيين ومهنيين – أن يخضعوا ويسمعوا ويطيعوا.
التشبث المرضي المُصر بنظام الاقتراع الفردي رغم تحذيرات المهنيين من مخاطره، والإصرار الأعمى على الانتداب للناشرين رغم ما يحمله من تهديد للتعددية، ورفض الرفع من عدد أعضاء المجلس من تسعة عشر إلى ثلاثة وعشرين عضوا رغم أنه مطلب يصب مباشرة في صالح التمثيلية والتنوع، ليست مجرد “خيارات تقنية” كما يحاول الوزير تصويرها وبكل سذاجة سياسية أمام البرلمانيين والرأي العام.
إنها خيارات أيديولوجية واضحة المعالم والأهداف: مجلس ضعيف منذ الولادة، منقسم على نفسه، قابل للاختراق والتوجيه والاحتواء. مجلس يحمل لافتة “التنظيم الذاتي” الخادعة لكنه في الحقيقة والواقع أداة إضافية مقنّعة لترويض المهنة وإخضاعها والسيطرة على أنفاسها.
السيد الوزير يتبنى ممارسة استبدادية فجة، يظن فيها أن الحقيقة محفوظة في “محفظته” التي كان يحملها في يوم من الأيام، وأن رأي آلاف الصحفيين والمؤسسات المهنية لا يساوي شيئا أمام “رؤيته الاستراتيجية العبقرية”. والأخطر والأفدح من ذلك كله، أن الحكومة بأكملها تدعمه في هذا الموقف المتعجرف المتغطرس، مما يعني بوضوح تام أننا أمام سياسة ممنهجة محكمة لمصادرة حق المهنة في تقرير مصيرها بنفسها.
التنظيم الذاتي… أكذوبة القرن
لنكف عن المجاملات الزائفة ولنقل الحقيقة العارية كما هي بلا تجميل: ما يسمى بــ”التنظيم الذاتي” في هذا المشروع المشوّه، ليس سوى مسرحية هزلية سخيفة، خدعة لغوية رخيصة لتمرير وصاية جديدة مُحكمة على الصحافة تحت غطاء المصطلحات الحداثية البراقة.
كيف يكون التنظيم “ذاتيا” والحكومة هي من تفرض بالقوة قواعد اللعبة كلها، وتحدد بالتفصيل آليات الانتخاب، وترفض بصلف كل صوت معارض أو ناقد؟ كيف يكون “ذاتيا” ونواب الأغلبية أنفسهم يهربون منه؟
التنظيم الذاتي، بتعريفه البديهي المتعارف عليه عالميا، يعني أن تضع المهنة قواعدها بنفسها بحرية وشفافية، أن يكون للصحفيين والمؤسسات المهنية الكلمة الأولى والأخيرة والحاسمة في تحديد شكل ومضمون وآليات مجلسهم. أما ما يحدث الآن أمام أعيننا، فهو العكس الصارخ تماما: الحكومة تملي وتفرض وتأمر، والمهنة عليها أن تسمع وتطيع وتنفذ. وإذا اعترضت أو احتجت، فسيُمرَّر القانون، ليلا فوق رؤوسها وبصوت واحد، في غفلة من الزمن والضمير والمبادئ.
هذا ليس تنظيما ذاتيا على الإطلاق، بل استعمار جديد )حتى لا أقول استحمار( مُحدَث للمهنة بأساليب القرن الواحد والعشرين. وصاية بغيضة مقيتة تُمارس باسم القانون والحداثة والإصلاح والتطوير. والمهنيون الشرفاء، الذين كرسوا حياتهم بالكامل للدفاع عن حرية التعبير والحق في الإعلام، يُطلب منهم الآن بكل بساطة أن يقبلوا ويبتلعوا مجلسا يُفرض عليهم بالإكراه والقوة، مجلسا لم يشاركوا في صياغة نصوصه، ولم يوافقوا على آلياته وتفاصيله، ولا يثقون مطلقا في نزاهته واستقلاليته.
الوزير بنسعيد يتحدث عن المجلس الوطني للصحافة وكأنه مشروعه الشخصي – مثل شركة سياراته الصينية -، “ملكيته الفكرية الحصرية”، يصوغه كيفما يشاء ويريد، ويرفض بعناد أي مساس به أو تعديل عليه. لكنه يتناسى – أو يتجاهل عمدا – حقيقة بسيطة وأساسية: هذا المجلس ليس ملكا للحكومة ولا للوزير، بل هو ملك حصري للصحفيين الذين سيخضعون لقراراته ومعاييره وسلطته. ومن حق هؤلاء الصحفيين الطبيعي والمشروع، بل من واجبهم المهني والأخلاقي، أن يرفضوا بقوة أي نموذج يُفرض عليهم بالإكراه والتعسف.
مجلس ميت قبل إعلان شهادة ميلاده
النتيجة النهائية معروفة ومُحسومة سلفا: المجلس الذي ستلده هذه العملية القيصرية القسرية العنيفة سيولد ميتا، جثة هامدة بلا روح. فاقدا كليا للشرعية المهنية، مرفوضا من الأغلبية الساحقة من أهل المهنة، محاطا من اللحظة الأولى بسياج كثيف من الشكوك والاحتجاجات والرفض.
كيف يمكن عقلا ومنطقا لمؤسسة أن تنجح وتؤدي دورها وهي مرفوضة بالإجماع تقريبا من أولئك الذين يُفترض أن تمثلهم وتنظمهم وتدافع عن مصالحهم؟ كيف يمكن لمجلس أن يفرض معايير أخلاقية وهو ولد من رحم الاستبداد والإكراه؟
الاقتراع الفردي، في بيئة إعلامية مستقطبة بشدة وتفتقر للتنظيم النقابي القوي والبنيات المهنية المتماسكة، سيُنتج بالضرورة الحتمية مجلسا مشوها عرجا، خاضعا لتوازنات الرأسمال و”أغلبية” التفاهة والتشهير، هشة متقلبة ومصالح متناقضة متصارعة. والانتداب للناشرين، بدلا من انتخابهم ديمقراطيا، سيحوّل المجلس حتما إلى نادٍ مغلق حصري لأصحاب النفوذ والمال والسلطة. والعدد المحدود جدا للأعضاء – تسعة عشر فقط – سيضمن بقاءه بعيدا كل البعد عن التمثيلية الحقيقية لواقع صحفي غني متنوع ومتغير باستمرار.
لكن الأخطر والأفظع من كل هذا وذاك، أن المجلس سيُستخدم حتما كسلاح فتاك موجّه ضد الصحافة الحرة المستقلة. سيُضرب به بلا رحمة كل صحفي يزعج السلطة أو يحرجها، وسيُطوّع ويُوجّه لخدمة أجندات سياسية وتجارية ضيقة. وعندما يحدث ذلك – وسيحدث لا محالة – لن يكون لدى أحد الحق الأدبي في التظاهر بالدهشة أو الاستنكار. حذّرنا وصرخنا بأعلى صوتنا، لكن لا أحد أراد أن يسمع أو يصغي.
الأغلبية الهاربة.. جبن سياسي لا يُغتفر
ولا يمكننا بأي حال أن ننهي هذه القضية دون أن نشير بأصابع الاتهام الواضحة إلى نواب الأغلبية الذين اختاروا طريق الهروب الجبان. نعم، نفهم تماما أنهم كانوا في مأزق سياسي وأخلاقي عسير: لا يقتنعون بالمشروع ولا يؤمنون به، لكن لا يستطيعون أو بالأحرى لا يجرؤون على معارضته علنا. لكن هذا الفهم الموضوعي لظروفهم لا يعفيهم إطلاقا من المسؤولية التاريخية والأخلاقية، بل يزيدها ثقلا ووطأة.
هؤلاء النواب كان بإمكانهم – بل كان من واجبهم – أن يكونوا شجعانا مبدئيين، أن يضعوا مصلحة المهنة والوطن والحقيقة فوق الحسابات الحزبية الضيقة والمصالح الشخصية الأنانية، أن يقولوا “لا” بصوت عالٍ واضح قوي حتى لو غضبت قيادات أحزابهم أو انزعج أولياء أمورهم. لكنهم للأسف اختاروا الهروب السهل. اختاروا أن يكونوا غائبين متوارين في لحظة تاريخية حاسمة كان يُفترض – بل كان واجبا – أن يكونوا فيها حاضرين شامخين.
غيابهم المدبَّر ليس موقفا سياسيا يُحترم أو يُقدَّر، بل جُبن مفضوح لا يُغتفر. وصمتهم المريب ليس حيادا موضوعيا، بل تواطؤ صريح مع الظلم. لقد سمحوا وساهموا في تمرير قانون لا يؤمنون بعدالته ولا بصلاحيته، لمجرد أنهم لم يجرؤوا على تحدي حكومتهم والخروج عن الخط الحزبي. وعندما يتحول المجلس إلى كابوس حقيقي على المهنة وأهلها – وهو ما سيحدث – سيكونون مسؤولين قانونيا وأخلاقيا بالتضامن والتكافل الكامل، حتى لو حاولوا بعد فوات الأوان الادعاء المضحك أنهم “لم يصوتوا لصالحه”.
التاريخ قاسٍ ولا يرحم الجبناء والانتهازيين. والصحفيون الشرفاء لن ينسوا أبداً أولئك الذين كان بإمكانهم إنقاذ المشروع من السقوط في هاوية الفساد والاستبداد، لكنهم فضّلوا سلامتهم الشخصية ومصالحهم الحزبية الضيقة على مصلحة المهنة العليا ومستقبل الصحافة المغربية.
دعوة للمقاومة لا للاستسلام الذليل
الصحفيون والصحفيات، المهنيون والشرفيون المغاربة الأحرار، هم اليوم أمام خيار تاريخي مصيري لا مفر منه: إما الخضوع الذليل لهذا المجلس المفروض بالقوة والإكراه، والقبول الصاغر بدور الأدوات الطيعة المطواعة في مسرحية التنظيم الذاتي المُزيّف الهزلي، وإما المقاومة الشرسة والرفض القاطع.
المجلس الذي تريده الحكومة، وتفرضه بالعنف التشريعي، ليس مجلسا للتنظيم الذاتي مادام محكوما ومسيطرا عليه. والقانون الذي مُرِّر بالتهريب والجبن بصوت واحد وغيابات فاضحة ليس قانونا ولن يتم الاعتراف به. ومن الواجب المقدس، كصحفيين مستقلين شرفاء وكمواطنين أحرار، أن نقاوم هذا الاغتصاب التشريعي بكل الوسائل المشروعة المتاحة، وأن يتم رفض الخنوع لهذه الوصاية الجديدة التي ستكون حتما تحت وصاية الولاءات والإملاءات…
الخلاصة المُرة.. جريمة بلا عقاب
صوت واحد كان كافيا – بمساعدة أحد عشر غائبا جبانا – لتمرير قانون سيترك جرحا غائرا نازفا في جسد الصحافة المغربية لسنوات طويلة قادمة. صوت واحد أعلن رسميا نهاية حلم التنظيم الذاتي الحقيقي النزيه، وبداية عهد جديد مظلم من الوصاية المقنّعة الماكرة. صوت واحد سيحاسب عليه التاريخ بقسوة كل من ساهم فيه وسهّله، بالتصويت المباشر أو بالصمت المتواطئ أو بالغياب الجبان.
أما الصحفيون والصحفيات الأحرار، فلن ينسوا هذه الخيانة أبدا. ولن يغفروا لمن باع مستقبل المهنة بصوت واحد. ولن يستسلموا لهذا المجلس المفروض مهما كانت الضغوط والتهديدات.
المعركة لم تنته بعد، بل بدأت للتو. والمقاومة مستمرة حتى تستعيد المهنة حقها المشروع في تقرير مصيرها بنفسها، بعيدا عن وصاية الوزراء المستبدين والحكومات الجبانة والبرلمانيين الانتهازيين.
المجلس الوطني للصحافة، بصيغته الحالية الملفقة -حسب مشروع القانون 25-026، جريمة تشريعية منظمة ارتُكبت في وضح النهار ومُرّرت ليلا. والمسؤولية التاريخية الكاملة تقع بالتضامن على الحكومة التي أصرّت بعناد على فرضه، والوزير باستبداده البيروقراطي الذي تعامل مع المهنة باحتقار وازدراء، والأغلبية البرلمانية الجبانة التي تواطأت بصمتها المريب وغيابها الفاضح. هذا المجلس سيولد ميتا، وسيبقى وصمة عار سوداء لا تُمحى في تاريخ الإعلام المغربي والديمقراطية المفتري عليها.