فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى وغزة اليوم.. أوجه الشبه والاختلاف في ظل الصراعات الإنسانية
بالعربي من باريس |
فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى وغزة اليوم.. أوجه الشبه والاختلاف في ظل الصراعات الإنسانية
أطالع هذه الأيام الموسوعة الفرنسية Journal de la France “يوميات فرنسا”، عمل مرجعي يوثّق تاريخ فرنسا من خلال نهج زمني وموضوعي. نُشرت في عدة مجلدات، وتتناول الأحداث الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي شكّلت مسار فرنسا.
تتميز هذه الموسوعة بأسلوبها الصحفي الذي يجمع بين السرد الوقائعي والتحليل والوثائق الأرشيفية، مما يقدم منظورا سلسا جذابا للاطلاع.
وما أثارني وأنا أطالع صفحات الموسوعة، مجريات أحداث الحرب على فرنسا وما خلّفته من آثار دمار على الإنسان والبُنيان، وقارنتُ تلك الأحداث مع ما يجري الآن من إبادة على شعب غزة وعلى مقدّرات القطاع، وتساءلت: كيف سيكون إحساس الفرنسي الذي قرأ تاريخ الحرب على بلاده وما خلفته من دمار وهو يشاهد الآن دمار وإبادة شعب غزة؟ هل ستتحرك درّة الإنسانية لديه؟!
تُعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) واحدة من أكثر الحروب تدميرا في التاريخ، إذ خلفت آثارا مدمرة على فرنسا، لا سيما في شمال شرق البلاد، حيث عانت المدن من دمار شبه كامل. في المقابل، يعيش سكان غزة اليوم في ظروف مشابهة من الدمار والمعاناة بسبب الصراع المستمر والحصار. ورغم الفروق الزمنية والسياقية بين الحالتين، يمكن استخلاص أوجه تشابه جديرة بالتأمل، وكذلك الاختلافات التي تبرز طبيعة كل صراع على حدة.
شهدت فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى دمارا واسع النطاق. كانت المدن والقرى في المناطق الشمالية الشرقية ميدانا للمعارك الطاحنة، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية بالكامل، بحيث عانى المدنيون من القصف المستمر، والجوع، والبرد، وواجهوا صعوبة في الحصول على أبسط احتياجاتهم الأساسية.
على النقيض، يواجه سكان غزة اليوم واقعا إنسانيا مشابها، لكن بظروف أكثر تعقيدا. يستمر القصف الإسرائيلي على القطاع، مما يؤدي إلى تدمير المنازل والبنية التحتية الحيوية مثل المستشفيات والمدارس. أضف إلى ذلك الحصار المفروض منذ أكثر من عقد، الذي جعل من الحصول على الموارد الأساسية مثل الماء والكهرباء والدواء تحديًا يوميًا.
خلال الحرب العالمية الأولى، عانت بعض المناطق الفرنسية من العزلة التامة بسبب الحصار، ما أدى إلى نقص حاد في الموارد والتموينات. كان على السكان التأقلم مع واقع قاسٍ من الحرمان والجوع.

في غزة، يُفرض حصار مستمر منذ عام 2007، يحرم السكان من الوصول إلى الموارد الحيوية. هذا الحصار لا يُقيّد فقط حركة الأشخاص والبضائع، بل يُعمّق المعاناة الإنسانية في القطاع، مما يجعل الوضع أكثر تشابكا مقارنة بفرنسا خلال الحرب.
حصلت فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى على دعم من قوى دولية كبرى، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، التي قدمت لها العون العسكري واللوجستي. إلا أن هذا الدعم لم يكن خاليا من المصالح الجيوسياسية، حيث سعت كل قوة إلى تحقيق مكاسب استراتيجية من خلال الحرب.
أما غزة، فتعيش في ظل انقسام واضح في مواقف القوى الدولية. بينما تُظهر بعض الدول دعمًا لحقوق الفلسطينيين في العيش بكرامة وإنهاء الاحتلال، تقف دول أخرى، ذات تأثير كبير، إلى جانب إسرائيل أو تلتزم الصمت تجاه الانتهاكات. هذا التباين يجعل القضية الفلسطينية أكثر تعقيدا على المستوى الدولي.
تميزت فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى بروح الصمود. رغم الدمار والخسائر البشرية الفادحة، وأظهر الشعب الفرنسي وحدة وطنية واستطاع الاستمرار في المقاومة حتى تحقيق النصر.
في غزة، تتجلى معاني الصمود يوميا. ورغم الظروف القاسية، يواصل سكان القطاع حياتهم بشجاعة وتحدٍّ، متمسكين بحقوقهم في مواجهة الاحتلال والظلم.
ورغم أوجه التشابه، تختلف الحالتان في عدة جوانب أساسية. فقد كانت الحرب العالمية الأولى صراعا بين دول قومية ضمن سياق سياسي وعسكري واضح، بينما الصراع في غزة متجذر في عقود من الاحتلال والنضال من أجل تقرير المصير. كذلك، كانت الحروب في فرنسا موجهة أساسًا ضد الجيوش، بينما في غزة، يُعتبر المدنيون الضحية الأكبر للصراع.
تُبرز المقارنة بين فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى وغزة اليوم كيف تؤثر الصراعات بشكل عميق على المدنيين، بغض النظر عن السياق الزمني أو الجغرافي. ومع ذلك، فإن واقع غزة يُظهر أبعادا أكثر تعقيدا، حيث يتشابك الاحتلال مع الحصار والدعم الدولي غير المتوازن.
بالعربي من باريس |