انتخابات شتنبر وسياسة التحكّم
فواصل – –
حسن اليوسفي المغاري
انتخابات شتنبر وسياسة التحكّم
لا حديث هذه الأيام سوى عن الانتخابات التي شهدها المغرب في الثامن من شتنبر الجاري، ولا سياسة متداولة سوى سياسة النتائج والصناديق وما أفرزته من نتائج ومن صراع
خفي ومعلن بين النظام السياسي الذي اعتمد النظام الانتخابي الفريد من نوعه في العالم، والذي أقر إجراء انتخابات ثلاثية الأضلع في يوم واحد، وبين أحزاب مدعومة وأخرى مهزومة وشعب منقسم بين حلل وملل سياسية، وجهات وصفت الانتخابات بأنها قمّة الديموقراطية!
عرفنا خلال الفترات السابقة للانتخابات كيف تمت عملية الترشح وكيف وُضعت اللوائح وكيف تُمنح التزكيات …، احتد الصراع من أجل الظفر بكرسي برلماني ومن ثمت الكرسي الوزاري والكراسي الجهوية …؛ وظل الحديث عن “التحكم” الذي كان سيد الموقف على الرغم من النسبة المعلنة رسميا للمشاركة) 50.18 في المائة( ، وظلت سياسة محاربة الفساد حبرا على ورق.
لقد أظهرت العديد من الحالات سياسة التحكم المُنتهجة من طرف جهات داخل النظام الدولتي، والتي أكدت كل تجليات التحكم السياسي من أجل فرض واقع جديد بعيد عن الديموقراطية المنشودة وكأننا نعيش مرحلة من مراحل التحكم الحزبي الذي عرفه المغرب إبان فترة ” الفديك”.
الآن هناك سياسة واضحة يريد منظروها كسب رهان التحكم السياسي إلى جانب التحكم الاقتصادي والحقوقي، وذلك من خلال المظاهر التي يعيشها المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي بحيث أن جل المشاريع الاقتصادية أصبحت تدور في فلك المتحكمين سياسيا.
لعل المتتبع الفطن للواقع السياسي كان يراقب بالعين المجردة مجريات الأحداث، وكل ذي عقل لبيب فهم مجريات اللعبة ومآلاتها، وإن كانت تحت غلاف الانتخابات النزيهة والمشاركة المكثفة للمواطن الذي يريد التغيير.. ولم يكن هناك أي تعاطف مع الحزب ذي المرجعية الإسلامية الذي انتهى دوره ضمن الرقعة السياسية بعد أن فقد جميع صلاحيات تواجده بفعل القرارات والإجراءات التي وُصفت باللاشعبية إذ كان الحزب هو المنفذ لتعليمات النظام السياسي.
كان العمل دؤوبا لتجديد النخبة السياسية الحاكمة بطعم “الأحرار” في إطار “النزاهة والشفافية والمعقول”، وذلك من خلال إيجاد تحكم قانوني قبلي مدروس، إلغاء نظام العتبة الانتخابية 3 % واعتماد نظام “القاسم الانتخابي” الذي يركز أساسا على عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية، وبالتعبئة على أرض الواقع بشتى الأساليب، وكذا باستعمال احترافي ومدروس للتكنولوجيات الحديثة..
ولم يتم إغفال حضور الوافد الجديد على الساحة الحزبية داخل الهندسة السياسية ممتطيا كرسي “الجرار”، دون التفريط طبعا في الأحزاب التقليدية التي تقاسمت جميعها الرقعة، الأمر الذي يعتبر إيذانا لبلقنة سياسية حزبية جديدة، وبالتالي التحكم ضمني في نتائجه بتوليفة مزركشة لتحالفات لن تفرز إلا “أغلبية” على مقاس الديمقراطية المتحكّم فيها.
لكن الأمر الذي لا يجب أن نتجاهله، هو أن الدولة ليس من عُرفها أن يُمارس حزبا واحدا السلطة، وبالتالي فإن الأغلبية الحكومية ستكون حتما متألفة بين ثلاثة أو أربعة أحزاب، ولنا في الحكومات المتعاقبة خير دليل؛ لأن عكس ذلك – في نظر الدولة – يشكل تبخيسا لعمل المؤسسة الملكية الذي يجب، حسب المنظور المتحكم، أن يظل النظام السياسي المعبّر عنه بـ”المخزن”، هو الواجهة الخفية للدولة في جُبّة من يكون في الواجهة.
أمرٌ آخر يبرر مدى تحكم الدولة في الرقعة السياسية، تحكمها في التقطيع الانتخابي وفي شكل اللوائح الانتخابية المعتمدة، ما يجعل العملية برُمتها مُتحكمٌ فيها، مع إضافة سُخط المواطن على الكائن الحزبي المتمثل في العدالة والتنمية والذي كان التصويت عقابيا اتجاهه.
أضف إلى ذلك مسألة خلق صراعات حزبية داخلية، ما يجعل من العمل الدولتي حاضرا بقوة في الاختيارات الاستراتيجية للتحالفات الذي يمكّن من لعب الدور الرئيس في المشهد السياسي الحكومي بتوافق مع الرؤية العامة المُنتهجة من طرف أجهزة الدولة المُتحكمة.
فبالنظر إلى كل التوليفات الحكومية السابقة، يظهر جليا مدى حضور القرار السياسي الرسمي على المشهد السياسي العام؛ ولا أدل على ذلك ما سُمِّي من قبل بـ ” حكومة التناوب التوافقي” تجنبا لـ ” السكتة القلبية”، الحكومة التي ترأسها المرحوم عبد الرحمن اليوسفي (2002/1998) وما عقبها من تطورات وتعيين وزير أول من خارج الأحزاب السياسية..
وبعدها، مرحلة الحكومة التي تزعمها حزب العدالة والتنمية، الإسلامي التوجه، سواء في نسختها الأولى أو الثانية (2016/2011) برآسة عبد الاله بنكيران؛ نفسُه الذي أقرّ أكثر من مرة بأنه لا يحكم وإنما يُدبَّر إلى جانب الملك الحاكم الفعلي..
ثم الحكومة المنتهية ولايتها مع سعد العثماني الذي حضر مراسم التوقيع على اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني، والذي في عهده رأينا مآسي حقوقية (واقعة أساتذة التعاقد، واقعة هيئة التمريض، الاحتجاجات الاجتماعية والمحاكمات…).
ولن ننسى قبل ذلك ما سبق أن صرّح به نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية؛ حينما صرح (شتنبر 2016 ): ” مُشكلتنا ليست مع الأصالة والمعاصرة كحزب، بل مشكلتنا مع من يوجد وراءه، وهو بالضبط من يُجسِّد التحكم” .. معقبا على سؤال الصحافي: “من يقف وراء البام”؟ قائلا: ” من أسسه؛ الأمور واضحة”… وهو بالطبع يشير إلى مستشار الملك، حينها فؤاد عالي الهمة، المؤسس الفعلي لحزب الأصالة والمعاصرة.. الأمر الذي جعل الديوان الملكي يُصدر بلاغا حينها شديد اللهجة اعتبر فيه أن ” تصريحات السيد نبيل بنعبد الله (…) ليس إلا وسيلة للتضليل السياسي في فترة انتخابية تقتضي الإحجام عن إطلاق تصريحات لا أساس لها من الصحة”. ورأينا بعدها ماذا حصل سياسيا لنبيل بنعبد الله.
إننا أمام وقائع تاريخية لمشهدنا السياسي تجعلنا نطرح أكثر من سؤال حول طبيعة نظامنا السياسي المتبع منذ عقود، وحول واقع أحزابنا السياسية التي تشكل رقعة السياسة في المغرب، ومدى حضورها الفعلي اليومي على أرض الواقع وليس حضورها الانتخابي، وحول المفهوم الصحيح عندنا للديموقراطية، مع اعترافنا أن جميع ديموقراطيات العالم تشوبها شوائب.. لكن تظل المحاسبة هي الفيصل وهي الفارق بيننا وبينهم.
نخلص إلى أن مُصطلح “التحكم” حلَّ محل مصطلح “محاربة الفساد”؛ وإذا كنّا قد عشنا فترة اتسمت بحمل شعار محاربة الفساد الذي اصطدم في وقت من الأوقات بـ “العفاريت والتماسيح”؛ وفي فترة ثانية بـ”رجال الدولة”، وفترات أخرى بـ”عفا الله عما سلف”…فإننا سنعيش لا محالة فترات متلاحقة أخرى تحت شعار جديد موسوم بـ “محاربة من يحارب الفساد”..
إن الأسئلة المطروحة حاليا على النظام السياسي عامة:
هل هناك نية فعلية للقطع مع ممارسات تحكمية، وبالتالي إيجاد واقع سياسي غير مُتحكم فيه، واقع سياسي ديمقراطي يعمل وفق استراتيجيات تنموية اقتصادية لصالح المواطن أم لا؟
ألم نعِ الدرس جيدا بعدُ ونعمل جميعا على تخطي حواجز الفشل السياسي المتكرر، بانعدام المصداقية والأخلاق السياسية إلى إقرار فعلي لربط المسؤولية بالمحاسبة؟
ألا نستحق فضاء وواقعا سياسيا ديمقراطيا نزيها بدون أي إقصاء، تتنافس فيه الأفكار والبرامج، على اختلاف مشاربها السياسية، بكل حرية وبالديمقراطية المطلوبة؟
ألا يستحق المواطن المغربي عيشا كريما ونظاما سياسيا لا ينخر جسمه الفساد؟