أحمد مصطفى: مستقبل الإعلام الرقمي
أحمد مصطفى
تذكرني الفورة الحالية بشأن “الذكاء الاصطناعي” في الإعلام بما حدث قبل سنوات من موجة طاغية تحت شعار “الإعلام الرقمي”. وبدا وقتها أن المسألة هي “حياة أو موت” الصحافة والإعلام إذا لم يتحول إلى “ديجيتال”. مع أن الأمر الطبيعي أن تستفيد الصحافة والإعلام، مثلها مثل أي صناعة أخرى من كل تطور تكنولوجي يسهل عملها ومهمتها باعتبارها “وسيلة توصيل”.
ومع انتشار الإنترنت، خاصة على الهواتف الذكية وزيادة شعبية مواقع التواصل، فمن الضروري على كل الصحف ووسائل الإعلام الاستفادة من تلك القنوات للوصول للجمهور الأوسع. لكن ما حدث قبل سنوات هو أن البعض تصور أن: “الرقمنة” تعني تغيير أصول المهنة وللأسف “مجاراة” السطحية والإثارة التي تميز نميمة مواقع التواصل. وكانت النتيجة أن ضعفت الثقة الجماهيرية في الصحافة والإعلام عموما مع زيادة جرعات التضليل و”الحقيقة البديلة” ومزج الرأي بالمعلومة وغالبا ما يكون الرأي إما تفسيرات مؤامرة أو تلفيق صريح.
بالطبع، استفادت وسائل الإعلام الرصينة من كل تلك التطورات التكنولوجية وأصبحت لها منصات رقمية مع ضعف التوزيع الورقي، كما عززت انتشارها عبر مواقع التواصل. لكنها حافظت إلى حد كبير على المهنة في مواجهة “الاستسهال” الخطير الذي أفقد الناس الثقة في “الصحافة الرقمية” التي “تركب الموجة” بحثا عن زيادة المتابعين بموضوعات الإثارة وغيرها.
ما حدث، أن موجة “الإعلام الرقمي” أفرزت منافذ جديدة جذبت اهتمام المستثمرين في الإعلام باعتبارها المنصات الأنسب للوصول إلى الأجيال الجديدة، مثل جيل الألفية وما بعده، التي شبت على أن الهاتف الذكي هو نافذتها الرئيسية على العالم. وأذكر جيدا حين أطلقت عدة شركات ناشئة للإعلام الرقمي أن الضغوط زادت على وسائل الإعلام التقليدية كي تجاريها، أو على الأقل تستثمر فيها حتى لا تتخلف عن الركب.
من الأمثلة الصارخة قبل سنوات قليلة موقع “فايس” للأخبار والمحتوى المصور لمنتج خصيصا للبث الرقمي. ووقتها سارعت مؤسسات إعلامية كبرى من شركة ديزني إلى شركة سكاي للاستثمار فيها، بل ومحاولة شرائها. وككل شركة ناشئة، حصلت فايس على مئات الملايين وتوسعت إلى أن وصلت قيمتها السوقية عند نحو 6 مليار دولار.
هذا الأسبوع أعلنت فايس إفلاسها بعد فشل محاولات طرح أولي في البورصة وحتى مفاوضات بيعها لشركات أخرى مقابل ما لا يزيد على مليار ونصف المليار دولار. وتزامن ذلك مع بروز المشاكل التي تواجه شركة ناشئة أخرى كانت محط اهتمام قطاع الإعلام هي “بظفيد”. فقد أغلقت الأخيرة بعض نشاطاتها وسرحت عاملين في إطار إعادة هيكلة وتوشك أن تلقى مصير فايس.
صحيح أن مشكلة شركات الإعلام الرقمي الناشئة هي جزء من مشكلة شركات التكنولوجيا الناشئة التي تواجه ضغوطا شديدة حاليا أدت إلى إفلاس الكثير منها، بعدما “حرقت” أموالا طائلة في فترة إنشائها. وكادت تلك الشركات الناشئة تشبه المشتقات الاستثمارية التي توفر المضاربات في البورصة وترتفع بنسب هائلة في فترة قصيرة ثم تهوي تماما.
لكن ما أثار اهتمام المستثمرين في الإعلام هو تفادي الأزمات التقليدية المتعلقة بالتمويل والعائد، فالاعتقاد أن إنتاج المحتوى الرقمي أكل كلفة من المحتوى التقليدي ومع تجارب كثيرة أصبح ذلك الاعتقاد محل شك. كما أن التراجع الشديد في عائد الإعلان الرقمي، الذي تهيمن عليه كبرى شركات التكنولوجيا الراسخة، ساهم في تبخير وهم الاستثمار في الإعلام الرقمي بسرعة. هذا فضلا طبعا عن أن المعلنين خفضوا ميزانياتهم التي كانت تغطي الإعلانات في الإعلام التقليدي.
كل تلك العوامل المتعلقة بنموذج الأعمال للصحافة والإعلام مهمة، لكن في تصوري أن العامل الذي لا يتعرض له كثيرون هو “القيمة”. فمع الضغوط المالية والاقتصادية على المؤسسات الصحفية والإعلامية تدهورت قيمة المحتوى الإعلامي بحجة تقليل النفقات من أجل الاستمرارية. ولم يعد تقييم العمل يعتمد على مدى “التأثير” لجودته وإنما على “عدد المتصفحين على موقع تواصل ما” باعتبار ذلك الهدف التسويقي الأهم.
ومصدر الخلل هنا هو ربما عدم فهم الجمهور المستهدف بشكل جيد من قبل أصحاب الصناعة الإعلامية. فالأجيال الجديدة بالتأكيد مختلفة عن قراء الصحف ومستمعي الإذاعات ومشاهدي التلفزيونات التقليديين. لكنهم أيضا سريعو التغير والتقلب، بل إنهم يبحثون ايضا عما يضيف قيمة وليس فقط عن “صحافة المواطن” وثرثرة ونميمة مواقع التواصل. ذلك أن معدل تشبعهم بنوع ما من المحتوى سريع جدا، وبالتالي تحولهم بحثا عن محتوى آخر. وحين يزيد هذا الطلب يكون العرض من قبل الصحافة الحقيقية والإعلام التقليدي تراجع نتيجة تحوله لتلبية طلب مؤقت متزايد.
لذا، تجد المؤسسات الإعلامية القليلة التي حافظت على التوازن بين أصول المهنة لإنتاج محتوى الجيد الذي يضيف قيمة أكبر واستخدام تطورات التكنولوجيا، رقمية وغيرها، هي الباقية رغم ما تعانيه من أوضاع مالية واقتصادية صعبة. أما المشكلة الأكبر فهي ما أصاب المهنيين أنفسهم، نتيجة ضغوط السوق، من “التمييع” و”الاستسهال” بحجة أن ذلك هو “الإعلام الرقمي”. وأكثر ما يخشاه المرء هو أن يستمر هذا النهج ويتزايد مع فورة الذكاء الاصطناعي، الذي هو في النهاية تطور تكنولوجي لتكوين طلب جديد بعد تشبع الطلب على المبتكرات التي نستهلكها حاليا.