الرأيتكنولوجيا

بريجع: الذكاء الاصطناعي في المفاوضات وحل النزاعات الدولية

تكنولوجياالرأي

الذكاء الاصطناعي في المفاوضات وحل النزاعات الدولية

*ديميتري بريجع

في العقود الأخيرة، شهد العالم تقدمًا غير مسبوق في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. هذا التقدم لم يقتصر على التطبيقات الاقتصادية أو العلمية فحسب؛ بل صار يؤدي دورًا مهمّّا في كثير من المجالات الأخرى، مثل المفاوضات الدولية، وحل النزاعات.

يتطلب حل النزاعات المعقدة على المستوى الدولي إدراكًا عميقًا للقضايا المتعددة الأبعاد التي تؤثر في الأطراف المختلفة، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة مبتكرة تساعد على تحليل هذه العمليات الصعبة وتبسيطها. في هذا المقال، سنناقش كيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين فاعلية المفاوضات وحل النزاعات الدولية، مع التركيز على الصراع في الشرق الأوسط كدراسة حالة.

أهمية الذكاء الاصطناعي في المفاوضات

أحد التحديات الرئيسة في المفاوضات الدولية هو كمية المعلومات الضخمة التي يتعين على المفاوضين استيعابها وتحليلها. في كثير من الأحيان، تكون المعلومات مبعثرة وغير مترابطة؛ مما يجعل من الصعب اتخاذ قرارات مبنية على أسس واضحة.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم حلولًا فعالة لهذه المشكلة من خلال قدرته على معالجة كميات ضخمة من البيانات، وتحليلها بسرعة. استخدام خوارزميات التعلم الآلي يمكن أن يساعد على توفير نظرة أعمق حول مواقف الأطراف المتفاوضة، ومصالحها، وتاريخ النزاع، والعوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤثر في سير المفاوضات.

الأبعاد الثلاثية لتأثير الذكاء الاصطناعي في المفاوضات

لفهم دور الذكاء الاصطناعي على نحو أفضل، يمكن تقسيم تأثيره إلى ثلاثة محاور رئيسة: المحور الاجتماعي، والمحور الإجرائي، والمحور الحسابي.

المحور الاجتماعي

المفاوضات الدولية غالبًا ما تتطلب تفاعلًا بين أطراف من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي في مساعدة المفاوضين على فهم الفروق الثقافية والاجتماعية التي قد تؤثر في سير العملية التفاوضية. باستخدام تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP)،

يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل اللغة والعادات والتقاليد الخاصة بكل طرف من الأطراف، وتقديم اقتراحات بشأن أفضل الطرق للتواصل والتفاوض. على سبيل المثال، يمكن لنظام الذكاء الاصطناعي أن يقترح كلمات أو عبارات يجب تجنبها لتفادي إساءة الفهم بين الأطراف، بالإضافة إلى تحسين فهم الإشارات غير اللفظية، مثل تعابير الوجه، ولغة الجسد.

المحور الإجرائي

يتطلب التحضير للمفاوضات الدولية الاهتمام بكثير من الجوانب اللوجستية، مثل مكان الاجتماع، والتوقيت، والقواعد والإجراءات المتبعة. يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم رؤية عميقة بشأن هذه التفاصيل، مما يساعد على إعداد بيئة مناسبة للمفاوضات. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم تحليلات بشأن القواعد غير المكتوبة والتوقعات الاجتماعية المرتبطة بإجراء المفاوضات في بيئات ثقافية مختلفة. هذا النوع من المعلومات يمكن أن يسهم في تحسين التنسيق، وتفادي سوء الفهم بين الأطراف.

المحور الحسابي

يعد المحور الحسابي إحدى أهم المزايا التي يقدمها الذكاء الاصطناعي. يمكن للنماذج الحسابية التنبؤية أن تحاكي سيناريوهات مختلفة للمفاوضات، بناءً على مواقف الأطراف، والظروف المختلفة، وهذا يساعد المفاوضين على التدريب على نحو أفضل، والتحضير لمواجهة احتمالات متعددة في أثناء سير المفاوضات.

كما أن استخدام تقنيات مثل التعلم الآلي يساعد على تحليل المحادثات السابقة، واستنتاج الأنماط الشائعة في ديناميكيات القوة بين الأطراف، مما يوفر للمفاوضين رؤية أعمق بشأن سلوكيات الأطراف المتفاوضة.

الذكاء الاصطناعي والصراع في الشرق الأوسط

تعد منطقة الشرق الأوسط واحدة من أكثر المناطق تعقيدًا في العالم من حيث النزاعات السياسية، والعرقية، والدينية. يتسم الصراع في هذه المنطقة بتداخل كثير من العوامل الداخلية والخارجية، ومنها الانقسامات الطائفية (السنة مقابل الشيعة)، والصراعات القومية (الأكراد مقابل العرب)، والتدخلات الدولية من قوى كبرى، مثل الولايات المتحدة، وروسيا. في هذا السياق، يمكن أن يقدم الذكاء الاصطناعي أدوات مبتكرة لتحليل هذا الصراع المعقد، وتقديم حلول مبتكرة.

دور الذكاء الاصطناعي في إدارة الصراع في الشرق الأوسط

يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات التاريخية المتعلقة بالصراع في الشرق الأوسط، ومنها الاتفاقيات السابقة، والمبادرات الدبلوماسية الفاشلة، ومواقف الأطراف المتورطة. على سبيل المثال،

يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي على تحليل الأسباب الكامنة وراء فشل بعض المبادرات السابقة، واقتراح طرق جديدة للتعامل مع النزاعات. من خلال تحليل كميات ضخمة من البيانات التاريخية والسياسية، يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم توصيات استنادًا إلى تجارب سابقة؛ مما يساعد على تجنب الأخطاء المتكررة.

الذكاء الاصطناعي بوصفه وسيطًا محايدًا

أحد الأدوار المثيرة للاهتمام التي يمكن أن يؤديها الذكاء الاصطناعي في حل النزاعات الدولية هو دوره بوصفه وسيطًا محايدًا. في كثير من الأحيان، يمكن للأطراف المتنازعة أن تكون غير قادرة على التوصل إلى اتفاق بسبب انعدام الثقة المتبادل.

هنا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتدخل بوصفه وسيطًا غير منحاز، يعالج القضايا بناءً على معطيات واضحة، دون أن يتأثر بالعوامل العاطفية، أو التحزبات السياسية. يمكن لنظام الذكاء الاصطناعي أن يعمل بوصفه وسيطًا افتراضيًّا بين الأطراف المتفاوضة، يقدم اقتراحات مبنية على تحليل دقيق للبيانات المتاحة.

محاكاة سيناريوهات التفاوض

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي سيناريوهات مختلفة للصراع في الشرق الأوسط بناءً على مجموعة من المتغيرات السياسية والدبلوماسية. على سبيل المثال، يمكن أن يقدم نموذج الذكاء الاصطناعي سيناريوهات توضح كيف يمكن للتدخلات الدولية أن تؤثر في مجريات الصراع، أو كيف يمكن للتغييرات في النظام السياسي الداخلي لدولة معينة أن تؤثر في مواقف الأطراف المتنازعة. هذه المحاكاة يمكن أن توفر رؤى مهمة لصانعي القرار، وتساعدهم على اتخاذ قرارات مستنيرة.

التحديات والقيود

على الرغم من الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي في المفاوضات وحل النزاعات، فإن هناك كثيرًا من التحديات والقيود التي يجب أخذها في الحسبان. أحد التحديات الرئيسة هو مسألة الشفافية والعدالة؛ فقد تكون هناك مخاوف من أن تكون بعض الأنظمة غير شفافة في طريقة عملها، مما قد يؤدي إلى عدم الثقة بالنتائج التي تقدمها.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون منحازًا بناءً على البيانات التي دُرِّبَ عليها. إذا كانت البيانات المستخدمة تحتوي على تحيزات اجتماعية أو ثقافية، فإن نتائج النظام قد تكون غير دقيقة، أو منحازة.

من ناحية أخرى، يعتمد الذكاء الاصطناعي اعتمادًا كبيرًا على البيانات المتاحة. في المناطق التي تكون فيها المعلومات محدودة، أو غير موثوقة، قد يكون من الصعب على الأنظمة الذكية تقديم تحليل دقيق وموثوق. كما أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الفهم العاطفي والاجتماعي الذي يعد ضروريًّا في المفاوضات الدولية، حيث تؤدي المشاعر والأبعاد الثقافية دورًا كبيرًا في تحديد نتائج المفاوضات.

الخلاصة

في النهاية، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يمثل أداة قوية يمكن أن تسهم في تحسين فعالية المفاوضات، وحل النزاعات الدولية. بفضل قدراته على تحليل البيانات الكبيرة، والتنبؤ بالسيناريوهات المحتملة، وتقديم رؤى دقيقة بشأن مواقف الأطراف، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون حليفًا قويًّا في إدارة النزاعات المعقدة، مثل الصراع في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فمن المهم أن تُستخدَم هذه الأدوات بحذر، وعلى نخو مدروس، مع مراعاة القيود الأخلاقية والاجتماعية التي قد تنشأ عن استخدامها.

بالنظر إلى تعقيدات الصراع في الشرق الأوسط، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دورًا مهمًّا في توفير حلول مبتكرة، ودعم صانعي القرار. لكن يبقى الدور الأساسي للمفاوضين البشر في توجيه هذه الأدوات على نحو صحيح، وضمان أن تكون المخرجات متوافقة مع القيم الإنسانية ومبادئ العدالة والسلام.

 

* باحث ومدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، محلل سياسي وباحث في الشأن السياسي الروسي، حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من الجامعة الروسية لصداقة الشعوب، ودرجة الماجستير من الأكاديمية الرئاسية الروسية للاقتصاد الوطني والإدارة العامة، عضو شبكة محرري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى