الحصار الرقمي الإسرائيلي على مواقع التواصل الاجتماعي
التضليل الإعلامي، المراقبة والقمع الرقمي للمحتوى حول غزة
فواصل – –
حسن اليوسفي المغاري
في ظل النزاع المستمر بين إسرائيل وفلسطين، ليس الحصار الجغرافي هو الحصار الوحيد الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، بل بات هناك حصار رقمي أيضاً يمتد عبر منصات التواصل الاجتماعي.
تحاول إسرائيل منع انتشار الصور والفيديوهات التي توثق الانتهاكات ضد المدنيين في القطاع من خلال التضليل الإعلامي والمراقبة المستمرة للمحتوى. وأصبحت هذه الساحة الرقمية أداة حاسمة، حيث يستخدم الجيش الإسرائيلي الإلكتروني أساليب متطورة لمنع انتشار ما يراه العالم من انتهاكات مروعة.
الجيش الإلكتروني الإسرائيلي وآلية التضليل الرقمي
يُعرف “الجيش الإلكتروني الإسرائيلي” بنشاطه المكثف على منصات التواصل الاجتماعي، ويعمل على إعاقة نشر وتداول المحتوى الذي يوثق جرائم الاحتلال. تنشط حسابات موجهة تحت إشراف جهات متخصصة في الأمن الرقمي، تُعرف بـ”الذباب الإلكتروني”، في نشر معلومات مضللة وتغذية الأخبار الكاذبة، بهدف التشويش على الحقائق. هذه الحسابات تستخدم عدة استراتيجيات، منها:
التشكيك في صحة المحتوى: عند نشر أي فيديو أو صورة توثق الانتهاكات، تقوم الحسابات الإسرائيلية بالتشكيك في مصداقية المحتوى، وتقديم سرديات مضادة بهدف نزع المصداقية عنه، مما يجعل المتابعين يشككون في حقيقة ما يُنشر.
الإبلاغ الجماعي: يعتمد الذباب الإلكتروني على الإبلاغ الكثيف عن المنشورات المتعلقة بالانتهاكات، مما يؤدي إلى إزالة المنشورات من قبل منصات التواصل الاجتماعي تحت ذريعة “مخالفة سياسات النشر” أو “التحريض على العنف”. حيث سجلت منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”أمنستي إنترناشيونال” حالات عدة لمنشورات تتناول القضية الفلسطينية أزيلت رغم التزامها بقواعد النشر.
التلاعب بالتريندات وإبراز الرواية الإسرائيلية: يعتمد الجيش الإلكتروني على إنشاء وسم أو “هاشتاج” يروج الرواية الرسمية الإسرائيلية، ويتلاعب بالخوارزميات لرفعها للواجهة، مما يجعل صوت الرواية المناصرة لإسرائيل يتصدر قائمة المواضيع الرائجة، ويدفع بالرواية الفلسطينية إلى الهامش.
التضليل الإعلامي بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي
تلجأ الجهات الإسرائيلية إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي لمعالجة وتحليل كم هائل من البيانات على الإنترنت، بهدف الكشف عن أي محتوى ينتقد سياسات الاحتلال أو يكشف عن الانتهاكات.
وتعمل هذه التقنيات على فرز الصور ومقاطع الفيديوهات والتعليقات، ومن ثم تحديد الوسوم والكلمات المفتاحية الحساسة، مثل “غزة” أو “الاحتلال”، مما يسهل على الجيش الإلكتروني استهداف تلك المنشورات.
أحد أهم التقنيات التي تُستخدم في هذا السياق هي “خوارزميات التعلم العميق” (شبكات عصبونية تم تصميمها على غرار الدماغ البشري)، التي تراقب وتراقب كل محتوى يتم نشره، وتتبع تفاعلات المستخدمين مع المنشورات، وتساعد في تصنيف الحسابات التي يتم استخدامها لنشر الحقيقة من أجل إسكاتها عبر إلغاء أو تقليل وصولها للمتابعين.
الوحدة 8200 وأهدافها الاستخبارية في العصر الرقمي
تُعدُّ الوحدة 8200 التابعة للاحتلال الإسرائيلي واحدة من أخطر الوحدات الاستخباراتية في العالم، حيث تشكل عماد الحرب الإلكترونية والتجسس السيبراني في الجيش الإسرائيلي.
تُدار هذه الوحدة تحت إشراف جهاز المخابرات الداخلية “الشاباك”، وتُعتبر جزءا أساسيا من آلية التجسس المتطورة التي تعتمد عليها إسرائيل لتنفيذ مهامها الاستخبارية على مستوى العالم.
وتعرف الوحدة 8200 بشكل رئيسي بأنها مسؤولة عن جمع المعلومات الاستخباراتية عبر الوسائل الإلكترونية، بما في ذلك التنصت على الاتصالات وتحليل البيانات الرقمية.
الهدف الاستراتيجي للوحدة 8200
تأسست الوحدة 8200 في سياق تطوير قوة الاحتلال الإلكتروني، وهي تختص بالتجسس السيبراني وجمع المعلومات عبر الإنترنت، ما يجعلها بمثابة الجناح الرقمي لجهاز “الشاباك”. تهدف الوحدة إلى تقوية استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي عبر جمع معلومات حساسة عن الأعداء المحتملين ومراقبة الشبكات الإقليمية والعالمية.
ومع التقدم التكنولوجي، توسعت مهام الوحدة لتشمل جمع المعلومات عبر الإنترنت من خلال استهداف الأفراد والمنظمات في العالم العربي والإسلامي.
وتشير التقارير إلى أن الوحدة قد بدأت في توجيه جهودها نحو نشر الفكر الصهيوني، خاصة عبر الإنترنت، حيث تم تجنيد آلاف من الشباب الإسرائيليين من طلاب الثانوية ليكونوا جزءا من أكبر جيش إلكتروني يهدف إلى التوغل في المجتمعات الإسلامية.
نماذج على التدخل الرقمي والمراقبة
تكررت حالات التدخل الرقمي الرقابي في أوقات الأزمات، حيث قامت منصات مثل فيسبوك وإنستغرام بحذف وإزالة المحتوى المتعلق بفلسطين، ومن أبرز الأمثلة:
حملة التضامن العالمي مع فلسطين في مايو 2021: شهد هذا الشهر تصاعداً في الضغوطات الرقمية، حيث سُجلت العديد من حالات حذف المنشورات التي تتناول اعتداءات الجيش الإسرائيلي على غزة. وشمل هذا الحذف مقاطع فيديو، صور، وحتى منشورات تحتوي على وسوم مثل “#أنقذوا_غزة”، مما أدى إلى تقييد حرية التعبير عن الدعم للقضية الفلسطينية.
حادثة حسابات النشطاء والمؤسسات الحقوقية: قامت فيسبوك في مرات عديدة بإيقاف حسابات لنشطاء ومنظمات حقوقية تتناول الشأن الفلسطيني، مما أثار استنكاراً من منظمات دولية. حيث يعتبر هذا الإيقاف محاولة واضحة لإسكات أصوات النشطاء الذين يوثقون الواقع وينشرونه للعالم.
استراتيجيات القمع الرقمي بين تواطؤ المنصات وضغط اللوبيات
تتعرض منصات التواصل لضغوط من مجموعات ضغط إسرائيلية معروفة، تدفعها لمراجعة المحتوى المتعلق بفلسطين، وهو ما أدى إلى خلق بيئة رقمية غير عادلة ومتحيزة ضد الرواية الفلسطينية.
وقد أظهرت تقارير متزايدة أن منصات التواصل تقوم بالتعاون مع هذه الجماعات؛ بل إن بعض موظفي الشركات الكبرى مثل فيسبوك وإنستغرام يتعرضون لضغوط من قبل “اللوبي الإسرائيلي” لمنع نشر المواد التي تدعم القضية الفلسطينية.
أمثلة حديثة على التضليل والمراقبة الرقمية (2023 – 2024)
التعتيم الرقمي على أحداث أكتوبر 2023 في غزة
مع عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، كثف الجيش الإلكتروني الإسرائيلي جهوده لحجب المواد التي توثق الانتهاكات ضد المدنيين في قطاع غزة. وفقًا لتقارير صادرة عن منظمات حقوقية، تعرضت العديد من المنشورات المتعلقة بالهجمات الجوية على المدنيين للحذف من منصات كبرى مثل إنستغرام وفيسبوك، بحجة مخالفة “سياسات المجتمع”. ورُصدت حملات إبلاغ مكثفة من حسابات الذباب الإلكتروني أدت إلى تقليص وصول بعض المنشورات الحساسة، ما دفع النشطاء إلى الاعتماد على منصات بديلة مثل تيليجرام لنشر المحتوى.
تشويه المحتوى وإلغاء حسابات مؤثرة على تويتر (إكس)
في عام 2024، زادت منصة إكس (تويتر سابقًا) من حذف أو تعليق حسابات نشطاء بارزين ينشرون مواد تتعلق بالقضية الفلسطينية، وبالتحديد تلك التي توثق القصف والمجازر في غزة. لوحظ تزايد في حملات التبليغ المنسقة والتي تسببت في تعليق حسابات مؤثرة مثل الصحفيين المستقلين وبعض المنظمات غير الحكومية، ما أثار انتقادات واسعة من قبل منظمات حقوقية دولية. وذكرت منظمة “أمنستي إنترناشيونال” أن الضغط الكبير من جماعات اللوبيات الإسرائيلية في الولايات المتحدة قد يكون له تأثير على سياسات المنصة تجاه هذا المحتوى.
حادثة حظر المحتوى على تيك توك خلال أحداث 2023
أظهرت تقارير حديثة أن منصة تيك توك قامت بحظر أو تقييد المحتوى المرتبط بالمقاومة الفلسطينية خلال عام 2023. حيث قامت تيك توك بحذف العديد من مقاطع الفيديو التي توثق آثار القصف على المدنيين بحجة “مخالفة شروط النشر” أو “احتواء محتوى عنيف”.
وأفاد مستخدمون أن محاولات تحميل الفيديوهات التي تظهر الأطفال المتأثرين بالقصف كانت غالباً تواجه بالحظر، بينما تعمل حسابات الذباب الإلكتروني على تشويه المنشورات عبر التعليقات التي تنكر الحقائق وتشكك بها.
استهداف البث المباشر للصحفيين على فيسبوك وإنستغرام
خلال الأشهر الأخيرة من عام 2024، أفاد صحفيون ونشطاء أن محاولات البث المباشر للأحداث على منصات مثل فيسبوك وإنستغرام، والتي تسلط الضوء على اعتداءات الجيش الإسرائيلي، تعرضت لقيود فورية. فبمجرد بدء البث، يقوم الذباب الإلكتروني بتقديم بلاغات تنتهي غالباً بقطع البث أو تقييد المشاهدات، ما يعد مثالاً واضحاً على تنسيق هجمات رقمية تهدف إلى إسكات الأصوات التي تنقل الحقيقة من غزة مباشرة.
التلاعب بالترندات لإبراز رواية إسرائيلية موازية
استمرت الجهود المكثفة في عام 2024 لإبراز الرواية الإسرائيلية على منصات التواصل الاجتماعي عبر التلاعب بالترندات، حيث لاحظ المستخدمون تصدر وسوم مثل “#دعم_إسرائيل” أو “#حماية_المدنيين” بشكل منظم على منصات مثل إكس (تويتر).
ويأتي ذلك من خلال تدخلات من حسابات منظمة وممولة، تعمل على تشويه النقاش حول الأحداث في غزة لصالح روايات إسرائيلية تصف القصف على أنه “دفاع عن النفس”. أثار هذا الوضع قلقاً بشأن عدالة المحتوى، حيث باتت الروايات المعارضة للقصف تجد صعوبة في الوصول إلى المتابعين.
التلاعب بالبيانات: خوارزميات تقليل الوصول
تتعمد بعض المنصات الكبرى تقييد وصول المحتوى الحساس عبر خوارزميات مصممة لتقليل مشاهدات المحتوى. ويُعتقد أن هذه الخوارزميات تُصمم بحيث تخفض نسبة الوصول للمحتوى المرتبط بكلمات مفتاحية محددة مثل “غزة”، “القضية الفلسطينية”، “فلسطين”، “الاحتلال”، “جيش الاحتلال”، “الصهاينة”… مما يجعل المحتوى أقل بروزاً على الصفحات الرئيسية للمستخدمين. ويشتبه أن هذه الخوارزميات تكون موجهة، بدعم من جماعات الضغط الإسرائيلي التي تضغط على منصات التواصل الاجتماعي.
التحديات المستقبلية
تشير التقارير إلى أن الأنشطة التي تقوم بها الوحدة 8200 تشكل تهديداً خطيراً للخصوصية والأمن السيبراني على مستوى العالم. في ظل تطور أدوات الحرب الإلكترونية، أصبح بإمكان هذه الوحدة التأثير في السياسات الداخلية للدول، ونشر الأفكار المسمومة التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والديني في الدول العربية والإسلامية.
إن مواجهة هذا النوع من الحروب الإلكترونية تتطلب تطوير آليات دفاعية أكثر تطوراً، وزيادة الوعي في التعامل مع المعلومات التي يتم نشرها عبر الإنترنت، خاصة في ظل انتشار الذكاء الاصطناعي وتقنيات المراقبة الرقمية.
تشير الأمثلة السابقة إلى أن التضليل الرقمي وتقييد وصول المحتوى الفلسطيني بات أداة فعالة تُستخدم لتشكيل الرأي العام وتوجيهه. جيث أصبحت هذه الممارسات جزءا من الحصار الرقمي المفروض على النشطاء والحقوقيين، وهو ما يعيق نقل الحقيقة ويمنع جمهورا واسعا من العالم من رؤية ما يحدث على أرض الواقع. بذلك، يتضح من خلال تحليل السياق الرقمي أن الحصار الذي تمارسه إسرائيل ليس فقط عسكرياً أو اقتصاديا، بل هو أيضا رقمي وإعلامي.
تعمل إسرائيل من خلال جيشها الإلكتروني ومنصات التواصل المتحيزة، على فرض رواية رقمية تهدف إلى تشويه الحقائق وتقييد انتشارها. ويعتمد نجاح هذا الحصار الرقمي على شراكات بين الجهات الحكومية الإسرائيلية وفرق التكنولوجيا العالمية، مما يسهم في إخفاء جرائم الاحتلال عن أنظار العالم.
هذا التضييق الرقمي يعزز من ضرورة تطوير منصات بديلة تمكن الشعوب من إيصال الحقيقة وكسر الحصار الرقمي الذي يسعى إلى طمس واقع غزة وتجريدها من صوتها.