المسخ السياسي في عصر “الذلقراطية“(*) والذكاء الاصطناعي: مفارقات العصر الحديث
نعيش في عصر يُطوّقنا فيه تقدم تقني هائل وتراجع قيمي في آن واحد، وهو ما يثير تساؤلات عميقة حول مصير الإنسانية. فقد أصبحت “الذلقراطية” ترسم المشهد السياسي والاجتماعي، بينما يزحف الذكاء الاصطناعي كأداة من أدوات السيطرة والخداع أحيانًا، والتحرر والتقدم أحيانًا أخرى. فكيف يتجلى “المسخ السياسي” في ظل هذا التناقض؟
سلطة الزيف والمظاهر..
في عالم تُستهلك فيه المعلومات بسرعة، أصبح السياسي يعتمد على اللغة المبهرة التي تفتقر إلى العمق والحقيقة. تُستخدم الشعارات الرنانة لخداع الجماهير بدلًا من تقديم حلول حقيقية. وأصبحت الشعبوية الرقمية، مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، من السهل على “المسخ السياسي” أن يصنع صورة مثالية عبر استغلال الذكاء الاصطناعي لتضخيم التأثير وخلق واقع وهمي.
تحرير الفكر أم تدجين العقل؟..
يُمثّل الذكاء الاصطناعي ثورة تقنية تُعيد تشكيل طريقة تفكيرنا وإنتاجنا. من جهة، ويُحرّر الفكر الإنساني بتمكينه من معالجة كميات هائلة من البيانات، وتسريع عمليات الإبداع والابتكار.
يُعِدنا الذكاء الاصطناعي لحياة تتسم بالكفاءة والتطور، لكنه في ذات الوقت يضعنا تحت تهديد السيطرة المطلقة، وذلك من خلال أنظمة المراقبة، التحليل البياني، والتلاعب بالمعلومات، بحيث يتحول الإنسان إلى رقم في معادلة كبرى تُديرها خوارزميات لا تعترف بالخصوصية.
السياسة في عصر الذكاء الاصطناعي..
يُمكّن الذكاء الاصطناعي الحكومات من تحسين خدماتها، ولكنه أيضا يوفر أدوات للاستبداد الذكي: التحكم في الرأي العام عبر الذباب الإلكتروني، قمع المعارضين باستخدام تقنيات التعرف على الوجه، وحتى شن الحروب دون تدخل بشري.
لقد أصبحت السياسة تعتمد بشكل متزايد على التقنيات الذكية لتحليل البيانات الضخمة، فهم اتجاهات الرأي العام، وصياغة استراتيجيات فعالة. وتُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في جمع وتحليل البيانات في الوقت الفعلي من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المصادر لتحديد مشاعر الجماهير وتوقع ردود أفعالهم على القرارات السياسية. هذا يساعد صانعي القرار على اتخاذ خطوات مدروسة ومبنية على رؤى محددة..
على الجانب الآخر، يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في السياسة تحديات أخلاقية وقانونية، مثل إمكانية التلاعب بالمعلومات وتأثير ذلك على نزاهة الانتخابات. كما أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تعميق الفجوة الرقمية بين الدول التي تمتلك التكنولوجيا وتلك التي تفتقر إليها. ومع ذلك، فإن استخدام هذه التقنيات يظل أداة قوية لإعادة تشكيل المشهد السياسي يعزز في غالب الأحيان مصالح الحكومات.
مفارقات العصر الحديث..
يمكن الحديث عن “المسخ السياسي”، كإفراز للتقنية، الأمر الذي أصبح أكثر وضوحا في ظل تقنيات فائقة التطور، بحيث يبدو أن السياسي يتراجع من كونه قائدا إلى “صورة إعلامية” فقط، يمكّنه الذكاء الاصطناعي من دعم “المسخ السياسي” من خلال تقنيات مثل التزييف العميق (Deepfake)، التي تخلق زيفا لا يُمكن تمييزه عن الواقع.
فهل يمكن أن نستمر في خلط التقنيات الحديثة بالسياسات القديمة دون أن نخسر قيمنا الأساسية؟ أم أننا أمام تحول جذري يُنهي الحقبة الإنسانية لصالح هيمنة الآلة؟
الفلسفة ودورها في فهم التحول..
يمكن لنا أن نقرأ الوضع السياسي الحالي من خلال رؤية ديستوبية Dystopia (المدينة الفاسدة)، إذ يمكن أن نقرأ هذا العصر من منظور “فرانسيس بيكون” الذي حذر من أن العلم دون حكمة قد يُسخّر لتدمير البشرية، أو من خلال “ميشيل فوكو” الذي يرى في التقنيات الحديثة أدوات للهيمنة والسيطرة.
كان فرانسيس بيكون (1561-1626)، الفيلسوف الإنجليزي ورائد المنهج التجريبي، من أوائل المفكرين الذين شددوا على أهمية المزج بين العلم والحكمة لضمان استخدام الاكتشافات العلمية بطريقة تخدم الإنسانية. حيث رأى أن العلم أداة قوية لفهم الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان، ولكنه حذر من مخاطر إساءة استخدام هذه القوة.
وأوضح بيكون أن العلم المجرد من القيم الأخلاقية يمكن أن يصبح أداة للتدمير بدلاً من البناء، مشددا على أن الغاية من المعرفة ليست فقط اكتساب السيطرة على الطبيعة، بل تحسين حياة البشر من خلال تطبيق المبادئ الأخلاقية. لهذا السبب دعا إلى تطهير العقل من الأوهام التي تعيق التفكير السليم مثل أوهام القبيلة، والسوق، والمسرح، والكهوف. واعتبر أن التحرر من هذه الأوهام يمهد الطريق للتفكير العلمي الرشيد الذي يُسخّر لخدمة الإنسان بدلًا من تدميره.
من منظور بيكون، إذا لم يوجه العلم بالحكمة، فقد يصبح مصدرًا للصراعات أو التلوث أو حتى الحروب المدمرة، مما يبرز أهمية التربية الأخلاقية جنبا إلى جنب مع التقدم العلمي لضمان بقاء الإنسانية واستدامتها.
في حين أن ميشيل فوكو الذي يُعتبر من أبرز الفلاسفة الذين انتقدوا تقنيات الهيمنة والسيطرة في المجتمعات الحديثة، رأى أن السلطة والمعرفة مترابطتان بشكل عميق، وأن التقنيات الحديثة تُستخدم كأدوات لإعادة إنتاج السيطرة الاجتماعية.
فبحسب فوكو، تُمارس السلطة من خلال ما سماه “التأديب” و”الحكوماتية”، وهي أنظمة تستخدم المؤسسات مثل المدارس، والمستشفيات، والسجون لضبط الأفراد وتشكيل هوياتهم. هذه المؤسسات تعمل كآليات لنشر معايير معينة تخدم السلطة، مما يجعل الأفراد أكثر قابلية للتكيف مع متطلبات المجتمع النيوليبرالي.
ويعتقد فوكو أن المعرفة التي تبدو بريئة هي في الواقع جزء من البنية السلطوية، حيث تُستخدم لتشكيل سلوك الأفراد وفرض سيطرة ناعمة تعتمد على الانضباط بدل العنف المباشر.
ومع كل ذلك، رؤية تفاؤلية..
بالمقابل، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح أداة للتحرر إذا ما تم استخدامه أخلاقيا، ووفق قواعد إنسانية تعيد للإنسان دوره كمُبتكر وليس مجرد مُستهلك.. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية للتحرر البشري إذا تم استخدامه بشكل أخلاقي ومتوازن.
فعندما يتم تطوير الذكاء الاصطناعي بناءً على قواعد إنسانية تحترم القيم والمبادئ الأخلاقية، يمكن أن يعزز من قدرة الإنسان على الابتكار والإبداع، بدلا من أن يتحول إلى مجرد مستهلك للتكنولوجيا.
ومن خلال تطبيق هذه المبادئ، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تحسين الصحة، تعزيز التعليم، وتخطيط المدن بشكل أفضل، مع تقليل التحيزات وتعزيز العدالة الاجتماعية… أن يساعد سياسيا لصالح المجتمع وليس للحكومات.
إلا أن استخدام هذه التقنية ينبغي أن يكون تحت إشراف ومراقبة صارمة، بحيث يبقى الإنسان هو المبدع والموجه، بينما يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز رفاهيته وتوسيع آفاقه، وليس للهيمنة عليه أو تحجيم قدراته.
خلاصة مركزة جدّا..
بين “المسخ السياسي” و”الذلقراطية”، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة مزدوجة الوجه. إنه سلاح يُمكن أن يحرر أو يستعبد. والمفارقة الكبرى تكمن في أننا، كبشر، لا نزال المتحكمين في مصير هذه الأدوات، على الرغم من أننا نخاطر بأن نصبح ضحايا لها. السؤال الفلسفي الأكبر ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيُهيمن، بل ما إذا كنا سنتمكن من إحداث توازن بين قوة التقنية وعمق القيم الإنسانية.
“الذلقراطية“(*): مفهوم مبتكر من طرف عالم المستقبليات المغربي المرحوم الدكتور المهدي المنجرة، الذي أصدر كتابا بعنوان “زمن الذلقراطية“