ثقافة

محمد كريم بوخصاص: التوتر وصراع الأدوار بين الإعلامي والسياسي بالمغرب

التوتر وصراع الأدوار بين الإعلامي والسياسي بالمغرب

محمد كريم بوخصاص، باحث في مختبر التواصل وتقنيات التعبير بجامعة سيدي محمد بن عبد الله-المغرب

الدراسة نشرها مركز الجزيرة للدراسات

 

تستكشف الدراسة مستويات التوتر في العلاقة بين الفاعليْن: الإعلامي والسياسي، انطلاقًا من شكل الصراع الذي يفقد خلاله الطرفان دورهما وغايتهما؛ فلا تضمن السلطة السياسية حرية تدفق المعلومة وحرية التعبير. وبالمقابل، لا يتوقف الإعلام عند حدود وظيفته الإخبارية والرقابية.

 

تتناول الدراسة موضوع الإعلام والسياسة وما يشوب العلاقة بينهما من توتر وتداخل عبر مقاربة نماذج تفسيرية مختلفة تتراوح بين علاقة العداء ونموذج التبادل الاجتماعي ونموذج الاعتماد والتكيف، لكن الدراسة حاولت إلقاء مزيد من الضوء على اشتراطات الجدلية من حيث التأثير المتبادل الذي يظهر على شكل صراع يفقد خلاله الطرفان دورهما وغايتهما؛ فلا تضمن السلطة السياسية حرية تدفق المعلومة وحرية التعبير، بالمقابل لا يتوقف الإعلام عند حدود وظيفته في الإخبارية والرقابية.

وتنطلق الدراسة من قاعدة أساسية مفادها أن الإعلام هو معرفة نسبية بالواقع أو الواقع منظورًا إليه من زاوية معينة، وأن السياسة هي قراءة نسبية للواقع أو الواقع منظورًا إليه من زاوية معينة، لتحاول استكشاف مستويات التوتر انطلاقًا من دراسة الحالة المغربية خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الجماعية عام 2015 وكذا التشريعية عام 2016؛ حيث تواترت الحملات الإعلامية التي تستهدف أطرافًا سياسية على حساب أخرى، فضلًا عن تشخيص واقع الإعلام في المغرب واستشراف آفاقه الممكنة.

ومن أهم ما خلصت إليه الدراسة أن التوتر بين السياسي والإعلامي هو توتر بين سياسي وسياسي، والفارق بينهما أن الأول فاعل والثاني مستتر، كما أن بلورة علاقة سليمة بينهما تتطلب استيعاب مكانة السياسي باعتباره شخصًا عامًّا يُفترض فيه أن يكون على تواصل مستمر مع المجتمع، ويقتضي أيضًا استيعاب رجال الإعلام للرسالة النبيلة التي يحملونها وتهدف إلى القيام بأدوار تنويرية وتواصلية وتنحو أيضًا إلى ترسيخ ثقافة الحوار والاختلاف.

 

تعتبر جدلية الإعلام والسياسة إحدى القضايا التي تحتاج إلى مزيد من البحث بالنظر إلى تأثيرها المباشر على الفعل الإعلامي والسياسي على حد سواء وما تخلفه من توترات وسوء فهم بين الفاعلين في الحقلين معًا. وتحاول الورقة دراسة الخلفية النظرية لتوتر العلاقة بين الإعلام والسياسة بعيدًا عن نتائج الدراسات التي تتوقف عند تكامل دور ووظائف الطرفين؛ حيث تنطلق من الخلاصات التالية:

أولًا: في ظل التطور التكنولوجي والمكانة التي أصبحت تحتلها المعلومة لدى الجمهور، وتنامي الدور المهم لوسائل الإعلام في توجيه الرأي العام وتشكيل الوعي لدى الأفراد والجماعات، لم يعد تأثير الفاعل السياسي في الإعلام أمرًا يسيرًا؛ إذ إن مفاهيم الرقابة والتوجيه والتضييق على الحريات بسنِّ قوانين مشددة لم تعد مجدية في سياق البث التليفزيوني العابر للقارات وتنامي الاعتقاد بمبادئ الاستقلالية، وتحول المواطنين إلى إعلاميين بحكم الوسائط الجديدة.

ثانيًا: لم يعد الإعلام يخضع بسهولة إلى إملاءات السُّلطة؛ إذ كشفت وقائع عدَّة أنها كانت من ضحاياه.

ثالثًا: الإعلام والسياسة كلاهما يتأثَّر ويؤثِّر في الآخر، ومستوى التأثير هو الذي يحدد طبيعة وشكل العلاقة بينهما.

وتكمن أهمية هذه الدراسة في رصدها لشكل العلاقة الملتبسة بين الإعلام والسياسة بغض النظر عن التحديات التي يواجهها الطرفان على أكثر من صعيد، كما تحاول تحديد مستوى أهميتها من خلال التأطير النظري  لمجموعة من المقولات التي ارتبطت بثنائية الإعلام والسياسة، وتزداد أهميتها في ظل حاجة المكتبة العربية إلى دعم الأبحاث العلمية التي تتناول مثل هذه القضايا والإشكاليات.

وتسعى الورقة أيضًا إلى تقديم دراسة للجدلية بين الإعلام والسُّلطة تتجاوز حدود العلاقة بينهما وما تعرفه من تداخلات إلى التحكُّم والضبط، وإلقاء المزيد من الضوء في تبيان حقيقتها، ثم اشتراطات هذه الجدلية من حيث التأثير المتبادل الذي يظهر أحيانًا على شكل صراع يُفْقِد الطرفين دورهما وغايتهما؛ فلا تضمن السلطة السياسية حرية تدفق المعلومة وحرية التعبير، وبالمقابل لا يتوقف الإعلام عند حدود وظيفته في الإخبار والتنبيه والرقابة. وتنطلق هذه الورقة من استكشاف أبعاد وخلفيات التوتر بين الإعلام والسياسة ومركزية السُّلطة في تأجيجه من خلال دراسة الحالة المغربية خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الجماعية عام 2015 وكذا التشريعية عام 2016؛ حيث تواترت الحملات الإعلامية التي تستهدف أطرافًا سياسية على حساب أخرى، فضلًا عن تشخيص واقع الإعلام في المغرب واستشراف آفاقه الممكنة.

أبعاد العلاقة وخلفيات التوتر 

إذا كان الإعلام يهدف إلى تزويد الجمهور بالأخبار والمعلومات الدقيقة، والحقائق الثابتة التي تساعدهم على تكوين رأي في واقعة من الوقائع، أو مشكلة من المشكلات، بحيث يُعبِّر هذا الرأي تعبيرًا موضوعيًّا عن عقلية الجماهير وميولهم، واتجاهاتهم في نفس الوقت(1)، فيما السياسة تهدف إلى تدبير الشأن العام، فإنه من حيث المبدأ، لا يوجد تنافس بين الإعلامي والسياسي، فكلاهما ملتزمان تجاه المجتمع بواجب الخدمة العمومية ويستقلان بدور خاص يتوخى تحقيق التنمية والديمقراطية للمواطن والمجتمع والوطن. كما يضطلع الإعلام بدور مهم في خدمة السياسة؛ وذلك عبر تأكيد شرعية الحكومات ودعم مبادئ الحرية والمساواة وتأمين مصالح المواطنين سواء الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية، وإن كان الأمر يختلف في الدول غير الديمقراطية؛ حيث التوجهات السياسية تسيطر على وسائل الإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر(2).

وتوصف العلاقة بين النظام السياسي والحقل الإعلامي بأنها علاقة تأثير متبادل؛ حيث يتأثَّر ويُؤَثِّر كلا الطرفين في الآخر، ولعل تحليل تلك العلاقة يطرح النماذج التفسيرية الآتية: نموذج علاقة العداء، ونموذج التبادل الاجتماعي، ثم نموذج الاعتماد والتكيف، ونموذج “العلاقة ذات الأبعاد الثلاثة” الذي يصوِّر العلاقة بين الإعلاميين والسياسيين والجمهور، ويرى أن الإعلاميين هم أكثر تحررًا في هذه العلاقة؛ لأن الجمهور والسياسيين يعتمدون على وسائل الاتصال للاحتفاظ بقوتهم(3).

لكن، إذا انطلقنا من قاعدة أساسية مفادها أن الإعلام هو معرفة نسبية بالواقع، وأن السياسة هي قراءة نسبية للواقع، فإن النتيجة هي حدوث ارتجاج في العلاقة واختلاف في المواقع بين الإعلامي والسياسي على مستوى اللغة ومستوى المنظورات، وهذا ما يؤكده عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، من خلال رفضه لما يُسمَّى بـ”اللغة الموحدة”؛ حيث إن اللغات تعكس التوترات الموجودة بين الأفراد نتيجة التعدد والاختلاف السنني لخطاباتهم.

وبما أن سَنَنَ الإنتاج (خطاب السياسي) يختلف عن سَنَن التلقي والتأويل (خطاب الإعلامي)، فإن ذلك يستتبعه الاختلاف في المنظور وفي وجهات النظر(4). وهذه المسألة لا تعدو أن تكون مشروطة بقصدية تراهن على خلق الالتباس وعدم التحديد، باعتبارها أشكالًا يُرام من ورائها المراوغة أكثر من الوضوح، والتملص أكثر من الإثبات، فضلًا عن الاختلاف الناتج عن التداول بين مفاهيم متضاربة أحيانًا أو أحكام مسبقة، أو في توظيف لصور مجازية واستعارية وتعابير إيحائية ومسكوكات غير مألوفة. وفي هذا الصدد، يمكن استحضار أربع خاصيات تدفع في اتجاه توتر العلاقة بين الإعلام والسياسة:

  1. سعي الإعلام في تعاطيه مع مواضيع السياسة إلى التركيز على النقاط التي تُؤَجِّج الخلاف بحثًا عن الإثارة، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى تجزيء خطاب أو تصريح لأحد الفاعلين السياسيين بشكل يُحَوِّر المعنى من أجل خلق نوع من البلبلة، ولعل أحد أسباب ذلك هو نزوع وسائل الإعلام إلى الربح المادي على حساب الحقيقة والموضوعية، إضافة إلى عدم تفهم بعض الفاعلين السياسيين لمهام الإعلام مما يسقطهم في أخطاء يقتنصها الإعلاميون.
  2. الإعلامي يُعتبر فاعلًا سياسيًّا مضمرًا(5)؛ يضطلع بمهمة الرقابة على الفاعل السياسي، مما يجعله مُؤَثِّرًا في القرار السياسي والحياة السياسية.
  3. التباين المفترض بين الطرفين على مستوى الخطاب واللغة؛ إذ يخبرنا السياسي عن أشياء نعرفها لكن بلغة مستعصية على الفهم؛ والإعلامي يخبرنا عن أشياء لا نعرفها لكن بلغة قريبة إلى الفهم. وهذا الخلاف يمكن أن ينتهي إلى صراع التأويلات، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، وبالتالي التأثير على نوعية العلاقة بينهما لتصل إلى حالات من التأزم أو سوء التفاهم.
  4. السياسي في جُبَّة الإعلامي والإعلامي في جلباب السياسي، والمقصود بذلك عندما يتقمص أحدهما (الإعلام أو السياسة) شخصية الآخر دون معرفة مسبقة بقواعد العمل وأخلاقيات التنافس، فتخسر السياسة نُبْلَها ويحيد الإعلام عن أهدافه ووظيفته.

ويوضح الرسم البياني رقم (1) الخاصيات الأربع التي تسهم في توتر العلاقة بين الإعلام والسياسة 

 

فبين اتجاه السياسي الذي يميل غالبًا نحو الغموض واتجاه الإعلامي صوب الإثارة تكمن الفجوة على مستوى المعلومات الموثوق بها. وهذا ما يؤكد أن “سوء التفاهم” ليس مسألة عرضية في التواصل بين السياسي والإعلامي، وإنما تُشكِّل معيارًا بالأساس(6)؛ لأن ما يتم تمريره سواء داخل الخطاب السياسي أو الخطاب الإعلامي، بوصفهما خطابين إيحائيين، ليس هو الرسائل اللغوية فقط، بل مجموعة من التَّمَثُّلات والتصورات، وهي غير متطابقة بفعل تغير الخلفية التي تُؤَطِّر عمل كل من السياسي والإعلامي؛ فخلفية السياسي أيديولوجية، وخلفية الإعلامي يحكمها الخط التحريري للمؤسسة الإعلامية، وهو خط يحاول أن لا يتقاطع مع الخلفية الأيديولوجية التي يتبنَّاها السياسي بقصد أو بدون قصد، فينشأ إثر ذلك اختلاف في التشخيص والرصد والتحليل وفي الجهاز المفاهيمي المعتمد.

وهذا الاختلاف ينمو ويتطور بفعل تطور الأحداث، فتنشأ بعد ذلك علاقة توتر نتيجة تحريف مضامين الخطاب السياسي، أو التركيز على جزئية منه، أو تسليط الضوء على ما يُسَمَّى بالحِجاج المحيطي بوصفه “مجموع الآليات الخطابية للتواصل السياسي التي تستند شكليًّا إلى طبيعتها السجالية”(7). بمعنى أن عدسة الإعلامي تقوم بالتركيز على العوامل المحيطة بحياة السياسي الشخصية والخوض في تفاصيلها بدل التركيز على البرنامج السياسي، فيما يدخل السياسي، في مجموعة من السياقات، في صراع مع الإعلامي لكشف هذا الأخير عن مجموعة من الحقائق التي تدخل في خانة المسكوت عنه أو غير المصرَّح به.

كما قد يتحوَّل الإعلامي في بعض الأحيان إلى سياسي دون دراية كافية بقواعد العمل السياسي، في مقابل تحوُّل السياسي إلى إعلامي دون معرفة قواعد المهنة، مما يُحْدِث التشويه في كليهما(8)، فلا نتمكن من صناعة طبقة سياسية أو إعلامية مميزة تعرف حدود تخصصها وسياقات عملها. لذلك، كان طبيعيًّا أن تنشأ شروخ في النسق العلائقي الذي يربط السياسي بالإعلامي. ثم هناك خصوصية تتجاوز العلاقة الملتبسة بين الإعلام والسياسة على المستوى النظري، ترتبط بالأساس بمفهوم السلطة؛ فالسياسيون سواء في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية يسعون إلى ممارسة سلطاتهم بعيدًا عن المحاسبة أو المساءلة، وهم يعلمون جيدًّا أن دخول الصحافيين على الخط يؤثِّر على قراراتهم ويضعها على المحك أمام الرأي العام ويعرِّضها للضغط أو الرفض.

ويُشَكِّل هذا الوضع أحد عناصر الالتباس الأساسية؛ تتجاوز إشكالات ثنائية (الإعلام/السياسة)، إلى جدلية (الإعلام/السلطة)، التي تفترض أن السلطة (السياسي عنصر قوة فيها) تسعى دائمًا إلى احتكار وسائل الإعلام على نحو كامل، أو عبر دعم مالي وسياسي أو تشريعات قانونية، في الوقت الذي يسعى فيه الإعلام إلى ممارسة سلطته وتكسير نموذج هيمنة السياسي على وسائل الإعلام.

 

السُّلطة مدخل لتأجيج التوتر 

يمكن القول: إن الإعلام والسُّلطة عنصرا معادلة كثيرًا ما يكون ملؤها التناقض والتنافر والتمنع والممانعة والاحتراب؛ إذ إن اكتساب مساحة إضافية لهذا، غالبًا ما يتم على حساب ذاك(9). وقد برزت هذه الجدلية نتيجة الفصل بين السلطات داخل المجتمعات، واستمرت رغم تطور القوانين والتشريعات المنظِّمة للممارسة الإعلامية. ولسبر أغوار هذه الجدلية يجب الرجوع إلى كيف أصبح الإعلام يُشَكِّل سُلطة في حدِّ ذاته.

لكل حكومة ثلاث سلطات، وهي: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وتحفظ السلطة التشريعية حقَّ المشرِّع في إصدار القوانين وإلغائها، فيما تضمن السلطة التنفيذية الحق في حماية سياسة الدولة وأمنها الداخلي والخارجي، أما السلطة القضائية فإنها تكفل الحق في تنفيذ القوانين. لكن استيلاء فرد أو جماعة على كل هذه السلطات يدفع إلى الاستبداد، لذلك جاء تطبيق الديمقراطية النيابية التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، وبرزت معها سلطة جديدة هي سلطة المناقشة(10)، وتعني مناقشة مشروعات القوانين في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة (صحف، إذاعة، تليفزيون، إنترنت..). وستُعرف هذه السلطة فيما بعد بـ”السلطة الرابعة” إلى جانب السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية). ويُعتبر النائب الإنجليزي، إدموند بوك، أول من أطلق اسم “السلطة الرابعة” على الصحافة، عندما اتجه إلى مقاعد الصحافيين في مجلس العموم البريطاني وهو يقول: “أنتم السُّلطة الرابعة”(11).

إذن، اعتبار الإعلام سُلطة رابعة جعل تحدي الإعلام والسياسة أهم التحديات التي يواجهها الإعلام بشكل عام، وذلك بحكم تداخل أهدافهما وغاياتهما، فالصحافة في جوهرها تشتغل بالسياسة، والسياسة تمارس الصحافة.. أي إن الصحافيين سياسيون بالضرورة، والسياسيون صحافيون بحكم العمل(12). ولذلك؛ تستعبد السُّلطة السياسية في حالات كثيرة الإعلامَ، وتحتكره سلاحًا من أسلحة الدفاع عن نفوذها وهيبتها وسلطاتها بدل أن تمارس الصحافة دورها في المناقشة والمساءلة وتوجيه الرأي العام لصالح قضايا عادلة تنتصر لقيم الحرية والكرامة. ومن ثم يبقى مطلب ضمان حرية الإعلام ملحًّا؛ لأنها امتياز للمجتمع وتعكس تعددية الآراء المختلفة، وليست امتيازًا للإعلاميين وحدهم، كما أن ممارسة مهنة الصحافة تحتاج إلى ضمانات قانونية وسياسية ومهنية أكثر من غيرها، ومن أبرز هذه الضمانات العامة: الفصل بين السُّلطات، والقضاء النزيه، وإيقاف هيمنة السلطة السياسية التنفيذية على الإعلام.

وتعدُّ الرقابة أحد مظاهر هيمنة السلطة السياسية على الإعلام باعتبار أنها تشكِّل أداة سياسية قوية لطمس تطور الرأي العام وإضعاف وخنق الفضائح(13)، حتى إن البعض يُشَبِّه حالة المتلقي للمعلومة من الإعلام بأننا “نعيش تحت سقف زجاجي كبير تتم فيه مراقبة أفكارنا وتصرفاتنا في كل لحظة، وبقدر ما نحاول أن نتحرر من سيطرة المرسل إلى دائرة خيار حرة وواعية لأفعالنا، فإننا في الواقع نعيد بناء سور جديد للرقابة من دون أن ندرك أبعاد ذلك إلا عندما نستيقظ من حلم الانعتاق من تلك الهيمنة”(14). كما أن مسألة توظيف الإعلام من طرف السياسيين أو من ينوب عنهم يحيل إلى مفهوم “الدعاية”، ويخرج للوجود ظاهرة اسمها التحكم أو التلاعب بالعقول لتطويعها عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، من كتب ونشرات وملصقات وصحف ومجلات وإذاعة وتليفزيون وإنترنت، حتى اختلط الإعلام بالسياسة والخبر بالمال، والمعلومة بالأمن القومي.

انطلاقًا مما سبق، يتضح أن الإعلام ارتبط بشكل كبير بالسياسة، وهذه الأخيرة تسعى إلى احتكاره وتوظيفه من أجل التأثير في الرأي العام، حتى إن عالم الاتصال الأميركي، هارولد لاسويل، الذي ختم مشواره العلمي، بعد أن جرى تكليفه بمكتبة الكونغرس بين سنوات 1940 و1941، بدراسة علاقة وسائل الإعلام بقيادة الرأي العام، انتهى إلى القول: “إن وسائل الاتصال تحولت إلى أدوات ضرورية في إدارة الرأي العام من طرف الحكومات”(15).

 

سبل نزع فتيل التوتر 

من أجل استشراف الآفاق الممكنة في العلاقة بين الإعلام والسياسة، يجب العمل على خمسة مستويات أساسية، وهي:

  • التقنين: أي وضع الضمانات التي تقيد حركة الفاعل السياسي تجاه التحكم في الإعلام، وتُحَصِّن الفاعل الإعلامي من الخضوع لسلطات الدولة، ولن يتأتى ذلك إلا عبر تعزيز حرية الإعلام والحق في الوصول إلى المعلومة وحماية سرية المصادر.
  • الإرساء المُؤَسَّسَاتي: والمقصود به إنشاء مؤسسات تحمي استقلالية الإعلام وتضطلع بمهمة تنظيم الممارسة الإعلامية.
  • صياغة نموذج اقتصادي يحقق استقرار المقاولة الإعلامية.
  • دَمَقْرَطَة الإعلام بأن يصبح المواطن شريكًا نشيطًا وليس مجرد هدف للإعلام، وأن تتنوع الوسائل الإعلامية المتبادلة، وأن تزداد مساهمة المواطنين في وسائل الإعلام؛ ولا يمكن حصر دَمَقْرَطَة الإعلام في مجرد توفر مزيد من مرافق الاتصال، وإنما من الضروري أن يرافق ذلك انتفاع أكبر عدد من المواطنين بها(16).
  • تحديد جهة الولاءات على نحو يجعل وسائل الإعلام تتوفر على علاقات شفافة مع الأنظمة السياسية، وفي نفس الوقت تُشَكِّل عاملًا إيجابيًّا في خدمة مشروع سياسي تنموي يكرس مبادئ الحرية والتعددية والحداثة والانفتاح واحترام حقوق الإنسان.

ويبين الرسم البياني رقم (2) العناصر الخمسة الضرورية لنزع فتيل التوتر بين الإعلام والسياسة

 

ولئن تم إنجاز مراحل مهمة على صعيد هذه المستويات، فإن الوصول إلى نوع من الاستقرار في علاقة الفاعل السياسي بالإعلامي، يقتضي الإيمان بأربعة مبادئ جوهرية، وهي:

  • التعددية: إن الممارسة الديمقراطية تقتضي وجود تيارات مختلفة ومنافذ للتعبير عن الرأي بطريقة منصفة، ومن الأشياء التي تجعل السياسي يفقد الثقة بالإعلامي هو عدم دقة هذا الأخير في تناول الأخبار وتحريف التصريحات وعدم التوازن في التعاطي مع الأحداث.
  • الاستقلالية: يفترض السياسي في أغلب الأحيان أن الإعلامي غير مستقل فيما يكتبه أو ينشره، والواقع أن من حق الإعلامي أن يطالب باحترام استقلاليته؛ لأن زاوية نظره ليست بالضرورة زاوية نظر السياسي. والمقصود بالاستقلالية ليس مفهومها الحرفي إنما مفهومها المعياري؛ فالاستقلالية مسألة نسبية(17).
  • الأخلاقيات: وفي مقدمتها النزاهة وتحري الدقة والأمانة في نقل المعلومة والتقيد بقواعد الكتابة الصحفية، ومن حق الفاعل السياسي أن يطالب بالإنصاف.
  • احترام اختصاصات السُّلط: كون الإعلام سلطة رابعة يعني أنه مُكَمِّل للسلط الثلاث الأخرى (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، فالإعلام يضطلع بدور الوسيط بين الجمهور (المتلقي) والمُشَرِّعِين والمسؤولين الحكوميين والقضاة. ويجب الانتباه إلى أن لكل سلطة مجالها ودائرة اختصاصها، لذلك فالمطلوب من السلطة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية احترام اختصاصات ونطاق سلطة الإعلام، وهذا الأخير مطالب بدوره بعدم منازعة السلط الأخرى في دائرة نفوذها.

 

ويوضح الرسم البياني رقم (3) المبادئ الضرورية لاستقرار العلاقة بين الإعلام والسياسة

 

العلاقة بين الإعلام والسياسة في الحالة المغربية 

إن البحث في الخلفيات النظرية لتوتر العلاقة بين الإعلام والسياسة وسُبُل نزع فتيل التوتر بينهما يتطلب دراسة حالة انطلاقًا من التحولات التي تعرفها بيئة الإعلام العربي في ظل مسارات حركة التغيير منذ العام 2011، حيث كان الإعلام أحد أبرز المجالات الكاشفة لطبيعة وحدود العلاقة بين السياسيين والإعلاميين، وقد تم اختيار نموذج المغرب باعتباره يشهد في السنوات الأخيرة حراكًا إعلاميًّا لا يقل أهمية، في جانبه الشكلي، عن الحراك السياسي الذي يعرفه بعد إقرار دستور 2011، والذي كان من تجلياته استكمال ورش تعديل قانون الصحافة والنشر الذي جاء بمقتضيات مهمة ونوعية.

  1. واقع الإعلام المغربي
  • الإعلام السمعي البصري

يوجد بالمغرب 19 إذاعة خاصة(18)، وقناة تلفزية واحدة خاصة(19)، رغم الإعلان عن نهاية احتكار الدولة للبث الإذاعي والتلفزي في سبتمبر/أيلول 2002. في المقابل، يسيطر الإعلام العمومي على المشهد الإعلامي عبر شركتين، هما:

  • الشركة الوطنية بـ9 قنوات تلفزية (3 عامة، و5 موضوعاتية، وقناة جهوية، و10 إذاعات جهوية)، تابعة للدولة سواء من حيث تمويلها أو من حيث إدارتها والإشراف عليها(20).
  • وشركة صورياد، القناة الثانية بقناتيها (2M و2M monde) وإذاعتها(21).

ويشاهد القناة الأولى حوالي 11 مليون مغربي في اليوم الواحد، وبالنسبة لنسب الاستماع للإذاعات المغربية فإن العدد الإجمالي للمستمعين يصل إلى 15.5 مليون مستمع يوميًّا.

  • الإعلام الورقي

يبلغ عدد عناوين الصحف الورقية التي تصدر بالمغرب، حسب معطيات رسمية، أكثر من 488 عنوانًا، من بينها 346 بالعربية و93 بالفرنسية و5 عناوين باللغة الأمازيغية و44 عنوانًا باللغتين العربية والفرنسية أو بلغات أخرى. وتكشف خريطة الصحافة الورقية أن هناك 14 صحيفة حزبية و27 صحيفة يومية تُوَزِّع حوالي 500 ألف نسخة يوميًّا، وأقل من عشرة منابر مجانية بحوالي 10 ملايين نسخة سنة 2012، و171 صحيفة جهوية. وإذا كانت أغلب وسائل الإعلام الورقية تصدر عن أشخاص ذاتيين أو عن أحزاب سياسية(22)، فإن للدولة حضورًا في هذا المجال، ففي السابق، كانت صحيفة “الأنباء” ومجموعة “ماروك سوار” تابعتين لها، لكن توقيف الأولى ونقل ملكية الثانية إلى مالك أجنبي لم يمنع من استمرار الصحف المنضوية تحت لوائها في العمل كصحف تابعة للدولة.

وتعاني الصحف الورقية من تراجع حاد في مبيعاتها، وفقًا لآخر إحصائيات مكتب مراقبة توزيع الصحف بالمغرب (OJD-Maroc)(23)؛ حيث تراجعت الصحف الثلاث الأكثر انتشارًا في المغرب بنسبة كبيرة، على سبيل المثال فقدت صحيفة المساء ما يزيد عن 20 ألف نسخة من مجموع النسخ الموزعة عام 2015، لتقف عند حاجز توزيع 47 ألفًا و453 نسخة فقط، وتراجعت مبيعات صحيفة الأخبار بما يناهز 9 آلاف نسخة بتوزيع يبلغ 55 ألفًا و162 نسخة، فيما فقدت صحيفة الصباح سبعة آلاف نسخة لتقف عند حاجز 38 ألفًا و784 نسخة.

  • الإعلام الإلكتروني

يعرف الإعلام الإلكتروني بالمغرب انتشارًا على المستوى العددي، مستفيدًا من يُسر الوصول وانخفاض كلفة الإنترنت، والتفاعل المباشر والحر مع المستخدمين. ويتجاوز عدد المواقع الإلكترونية الإخبارية 580 موقعًا؛ بعضها يُغَطِّي الشأن الوطني، وبعضها الآخر جهوي ومحلي، إضافة إلى مواقع تمثِّل نسخًا لبعض الصحف الورقية. وبلغ عدد المواقع الإلكترونية الإخبارية الحاصلة على وصل الإيداع لدى المحاكم حوالي 256 موقعًا إخباريًّا خلال العام 2016(24)، كما بلغ عدد البطاقات المهنية للصحافيين العاملين في الإعلام الإلكتروني أكثر من 200 بطاقة خلال نفس العام.

  • وكالات الأنباء

يتوفر المغرب على وكالة رسمية للأنباء وهي وكالة المغرب العربي للأنباء، تم تدشينها يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1958، وتعرف تمثيلية وطنية ودولية. وحسب معطيات رسمية فقد شهدت في الفترة ما بين 2011 و2014 توسيع خدماتها المقدمة بحوالي 40%. وتشترك الوكالة الرسمية للمغرب مع 70 وكالة دولية، وتستعمل 5 لغات، وتنشر حوالي 216 ألف قصاصة سنويًّا ومليونًا و87 ألفًا و200 قصاصة للوكالات الشريكة، كما تنتج 10 آلاف مادة صوتية، و7 آلاف صورة فوتوغرافية، وتُعِدُّ 2760 ريبورتاجًا مصوَّرًا و1300 رسم بياني و3432 نشرة للصحف(25).

  • حرية الصحافة

أقر المغرب مدونة للصحافة والنشر(26) عام 2016، تضمَّنت قانونًا للصحافة والنشر وقانونًا خاصًّا بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين، وقانونًا يتعلق بالمجلس الوطني للصحافة. وحمل قانون الصحافة والنشر(27) الذي حلَّ محلَّ قانون الصحافة لعام 2002 مكاسب وضمانات جديدة تهدف إلى تقوية الشروط القانونية الخاصة بالحماية الاجتماعية للصحافيين، وتقنين الولوج إلى المهنة، وتعزيز ضمانات استقلالية الصحافي والمؤسسات الصحافية(28). وحقَّق القانون طفرة نوعية فيما يخص تعزيز حرية الصحافة والتعبير من خلال سلسلة من الإجراءات في مقدمتها إلغاء العقوبات السجنية من قانون الصحافة والنشر عبر تعويض عقوبات مالية بـ30 عقوبة سالبة للحرية(29)، والتنصيص على عدم تطبيق الإكراه البدني في جرائم الصحافة والنشر بمجرد إثبات عدم القدرة على الأداء(30)، واعتماد مجلس وطني للصحافة(31) كآلية مستقلة وديمقراطية للتنظيم الذاتي للمهنة وإقرار احترام أخلاقيات العمل الصحفي وكرامة الأفراد وحياتهم الخاصة، وإناطة اختصاص منح بطاقة الصحافة لهذا المجلس، وجعل سحبها من اختصاص المجلس أو القضاء بدل الإدارة(32).

وشملت الإجراءات أيضًا الاعتراف القانوني بالصحافة الإلكترونية؛ إذ بلغ عدد المواقع الإلكترونية الإخبارية الحاصلة على وصل الإيداع 256 موقعًا إخباريًّا سنة 2016، كما ذكرنا آنفًا، مقابل 0 سنة 2012، إضافة إلى تمكين الصحف الإلكترونية من تصريح للتصوير الذاتي صالح لمدة سنة وقابل للتجديد(33)، وجعل اختصاص إيقاف الصحف وحجب المواقع الإلكترونية حصريًّا من اختصاص القضاء(34).كما لم تسجَّل طيلة الأعوام الخمسة الماضية أية مصادرة لصحيفة وطنية أو إغلاق لموقع إلكتروني بقرار إداري، وعدم صدور أي حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به بالسجن في حق الصحافيين(35)، فضلًا عن إرساء الحماية القضائية لسرية مصادر الصحافيين وعدم الكشف عنها إلا بمقرر قضائي وفي الحالات المنصوص عليها قانونيًّا(36)، ومنع الإيقاف أو الاعتقال الاحتياطي للصحافي والمتابعات المتعلقة بالصحافة والنشر.

 

وانطلاقًا من هذه المؤشرات، يمكن التوقف عند الاستنتاجات الآتية:

  • تحرير القطاع السمعي البصري لا يزال محتشمًا؛ إذ لم تستطع الدولة أن ترفع يدها عن هذا القطاع بشكل كلي أو جزئي.
  • لا يزال للدولة (السلطة) حضور في الصحافة الورقية، وتبقى وكالة المغرب العربي للأنباء الأكثر تعبيرًا عن وجود صحافة رسمية.
  • تعدد عناوين الصحافة الورقية يُعَبِّر عن “وفرة الوهم”(37)، في وقت تزداد فيه نسبة المغاربة المتابعين للقنوات التليفزيونية، مقابل تراجع مقروئية الصحف.
  • الإعلام أخذ من الفاعل السياسي (المشرِّعين) مكاسب وضمانات جديدة في قانون الصحافة والنشر الجديد.
  1. خلفيات التوتر وأبعاده

لم تمنع جرعات النَّفَس الديمقراطي الذي يعرفه المغرب والتوسع المجالي والتدابير القانونية التي يشهدها الجسم الإعلامي من بروز توترات بين الفاعليْن الإعلامي والسياسي خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الجماعية عام 2015 وكذا التشريعية عام 2016، وتمثَّلت في الحملات الإعلامية المستمرة التي استهدفت أطرافًا سياسية على حساب أخرى، بلغت حدَّ الخوض في الحياة الخاصة لشخصيات سياسية ودعوية(38)، وفي هذا السياق، يمكن استحضار ثلاث ملاحظات تلخص أبعاد التوتر وخلفياته بين ثنائية “الإعلام والسياسة” في الحالة المغربية، وهي:

  • الملاحظة الأولى: وصول فاعل سياسي جديد إلى السلطة مُمَثَّلًا بحزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي جعل التوتر يدخل بشكل غير مسبوق دائرة العلاقة بين الإعلام الرسمي والفاعل السياسي الحكومي، وذلك في مشهد غير منطقي ومثير للانتباه؛ لأن الإعلام العمومي يجب أن يكون منصة للتعريف بقرارات وإنجازات الفاعل الحكومي، ومن تمظهرات هذا التوتر:

o معركة دفاتر التحملات بين مسؤولي القطب العمومي والقطاع الحكومي المشرف على الإعلام والاتصال عام 2012، والتي شكَّلت بداية الصراع، الذي لم يهدأ إلا بتدخل ملكي، وقد تحوَّل “الإعلام العمومي” بعد هذه المعركة إلى فضاء لجرأة يمكن اعتبارها زائدة وغير مبررة أحيانًا.

o احتجاج مسؤولين حكوميين ضد تجاهل “الإعلام العمومي” لأنشطتهم الرسمية، ومن ضمنهم رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بن كيران، الذي اشتكى أكثر من مرة من عدم تغطية وسائل “الإعلام العمومي” لنشاطاته باعتباره رئيسًا للحكومة، كان آخرها قبل إعفائه من تشكيل الحكومة المغربية وذلك بمناسبة المؤتمر الدولي للمناخ بمدينة مراكش؛ حيث أجرى 8 لقاءات رسمية بينها لقاء مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند دون أن تُنشر تقارير عنها(39).

o الجدل الذي أثاره برنامج “ضيف الأولى” على القناة الأولى التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، الذي يُنَشِّطُه مذيع يحرص على توجيه انتقادات لاذعة إلى حزب العدالة والتنمية في كل حلقة، واحتجاجًا على ذلك قاطع الحزب البرنامج(40)، وأعلن أن مُقَدِّمَه “انتزع جُبَّة الصحفي الذي يُفْتَرَض فيه الحياد مع جميع الأطراف خصوصًا أن برنامجه يُقَدَّم على قناة عمومية، ولَبِسَ جُبَّة عضو بحزب الأصالة والمعاصرة”(41)، الذي يُعَدُّ الخصم السياسي لإسلاميي العدالة والتنمية. ووجَّه المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري (الهاكا) إنذارًا للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة لعدم احترامها المقتضيات القانونية، وأدلى منشط البرنامج بتعليقات ومواقف انتقدت في مجملها حزبًا سياسيًّا معينًا دون غيره من الأحزاب(42).

  • الملاحظة الثانية: بروز رجال أعمال معروفين بولائهم للسلطة وقادة أحزاب يديرون صحفًا ومواقع إخبارية(43). كما أن الساحة الإعلامية وإن كانت تعرف تعددية فإن فئة قليلة هي من تمتلك الإعلام وتؤثر فيه(44).
  • الملاحظة الثالثة: معظم داعمي الصحافة في المغرب مرتبطون بالقطاع الاقتصادي والسياسي، كما أن المؤسسات العمومية أو شبه العمومية أكبر الممولين، كما تُثبت ذلك إحصاءات رسمية، مما يجعل توزيع الإعلانات التجارية يخضع لمنطق الولاء السياسي، فضلًا عن أن قطاع الإعلان (الإشهار) في المغرب لا تتوفر فيه شروط الشفافية، كما عبَّر عن ذلك وزير الاتصال عام 2014(45)، ولا يُنَظِّمُه قانون أو ميثاق أخلاقي ويحترم المعايير الدولية. لذلك نجد أن توزيع الإشهار في قطاع الصحافة لا يخضع لمنطق السوق، وإنما لطبيعة موقف السلطة من السياسة التحريرية لهذه الوسيلة الإعلامية أو تلك؛ حيث تجد صحيفة تبيع نسخًا أقل لكنها تحصل على أضعاف ما تحصل عليه صحيفة أخرى تفوقها بكثير من حيث عدد المبيعات مما يدفع في اتجاه فرضية أن الإشهار سلاح سياسي يُستعمل لمعاقبة المنابر الإعلامية التي يُقدَّر أنها تغرد خارج السرب(46).
  1. متطلبات العلاقة بين الإعلامي والسياسي 

انطلاقًا مما سبق يمكن القول: إن التجربة المغربية في مجال الإعلام يلزمها عمل كبير لتجاوز العراقيل سالفة الذكر، والتي تسهم في تعميق حالة التوتر بين الفاعليْن: الإعلامي والسياسي، وتبقى الإجراءات المتخذة في السنوات الأخيرة قاصرة عن تقديم حلول ما لم تشمل مختلف المستويات بهدف الوصول إلى الحد الأدنى من التوتر، وفيما يلي جدول (رقم 1) يلخص ما تحقق وما لم يتحقق:

 

المطلوب

التقييم

العناصر

التقنين مؤشرات إيجابية اعتماد قانون للصحافة والنشر متقدم
 

 

 

 

الإرساء المؤسساتي

 

 

 

 

مؤشرات إيجابية

اعتماد قانون إنشاء المجلس الوطني للصحافة، ويُعْهَد إلى هذا المجلس:

– الحرص على صيانة المبادئ التي يقوم عليها شرف المهنة.

– التقيد بميثاق أخلاقيات المهنة والقوانين والأنظمة المتعلقة بممارستها والسهر بوجه خاص على: ضمان وحماية حق المواطن في الإعلام، وتطوير حرية الصحافة والنشر، وتطوير الحكامة الذاتية للقطاع بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية(47).

 

 

صياغة نموذج اقتصادي

 

 

مؤشرات سلبية

– المقاولات الإعلامية لا تزال ترتهن إلى دعم الدولة والإعلانات التي لا تخضع للشفافية في غياب قانون ينظم قطاع الإعلان والإشهار.

– مقاولات الصحافة الورقية تعيش وضعية مالية صعبة تُهَدِّد وجودها.

 

دَمَقْرَطَة الإعلام

 

مؤشرات سلبية

يلزمها مسار طويل يحتاج بشكل مستعجل إلى:

– رفع يد الدولة عن الإعلام.

– تحرير القطاع السمعي البصري.

تحديد جهة الولاءات مؤشرات سلبية جهات مؤثِّرة ونافذة تستثمر في الإعلام كما سبق الذكر.

خلاصة

من خلال الدراسة النظرية والتطبيقية لعلاقة الفاعليْن الإعلامي والسياسي وخلفيات التوتر بينهما وأبعاده يمكن أن نرصد عددًا من الاستنتاجات، في مقدمتها:

  • الإعلامي والسياسي يشتغلان في نفس الواقع ويشتركان في جملة من الأهداف ويستهدفان نفس الجمهور؛ لذلك أمكن القول: إن التوتر بينهما هو في نهاية المطاف توتر بين سياسي وسياسي؛ الأول فاعل والثاني مستتر. وعندما يكون هناك توافق بين السياسي الذي يُدَبِّر الشأن العام، والسياسي المستتر (الإعلامي)، ينتج عن ذلك توافق بين الإعلام والسياسة، لكن حين يوجد السياسي المُسْتَتِر المُتَمَتْرِس خلف الإعلام في وضعية تناقض مع السياسي الذي يمتلك سلطة تدبير الشأن العام، فإن السياسي المستتر يوظف الإعلام لعرقلة عمل السياسي الذي يُدَبِّر الشأن العام، وفي هذه الحالة يحصل توتر ويبدأ الصراع بين الطرفين. وقد يفعل سياسيُّ تدبيرِ الشأن العام أي شيء من أجل محاصرة المنبر الإعلامي أو الإعلامي بحدِّ ذاته الذي ليس سوى السياسي المُسْتَتِر، فيظهر الصراع على أنه بين الإعلام والسياسة لكنه في الحقيقة صراع بين إرادتين سياسيتين.
  • إن بلورة علاقة سليمة بين الفاعل السياسي والإعلامي يتطلب استيعاب مكانة السياسي كشخص عام يُفترض فيه أن يكون على تواصل مستمر مع المجتمع، ويقتضي أيضًا استيعاب رجال الإعلام للرسالة النبيلة التي يحملونها وتهدف إلى القيام بأدوار تنويرية وتواصلية وتنحو أيضًا إلى ترسيخ ثقافة الحوار والاختلاف.
  • الإعلامي في حاجة إلى بلورة تواصل يوازن بين نقل المعلومة وتنوير الرأي العام، واحترام أخلاقيات المهنة المرتبطة بتجاوز توجيه الاتهامات المسبقة والانخراط في رؤية أحادية.

_________________________________

 

مراجع

  1. البكاء، محمد، الإعلام واللغة: مستويات اللغة والتطبيق، دار نينوى، دمشق، 2010، ص 11.
  2. الزهراني، أحمد قران، السلطة السياسية والإعلام في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2015.
  3. بسيوني، إبراهيم حمادة، الصحافة وصنع القرار السياسي في الوطني العربي، عالم الكتب، القاهرة، 2012، ص 105.
  4. عمراني، المصطفى، “حوار”، التجديد، العدد 3896،  10-16 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
  5. الخلفي، مصطفى، “الإعلامي والسياسي.. أية علاقة؟”، ورقة قُدِّمت إلى مركز هسبريس للدراسات والإعلام ومؤسسة دويتشه فيله الألمانية، الرباط، 20 سبتمبر/أيلول 2016.
  6. عمراني، “حوار”، صحيفة التجديد، العدد 3896.
  7. Gauthier, G. “l’argumentation peripherique dans la communication politique”, (Université Laval,Québec), p. 167..
  8. العربي، قطب، “جدلية العلاقة بين الإعلامي والسياسي”، الجزيرة نت، 30 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 15 فبراير/شباط 2017):

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2016/8/29/جدلية-العلاقة-بين-الإعلامي-والسياسي

  1. اليحياوي، يحيى، “في تجاذبات العلاقة بين الإعلام والاتصال والسياسة”، مركز الجزيرة للدراسات، 23 يونيو/حزيران 2014، تاريخ الدخول: 15 فبراير/شباط 2017:

http://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2013/11/2013111495726206853.html

  1. غالي، بطرس، وعيسى، محمود خيري، المدخل في علم السياسة، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1990.
  2. محمد، محمد سيد، الصحافة سلطة رابعة.. كيف؟، د.ن، 1989، ص 5.
  3. حافظ، صلاح الدين، تحريم السياسة وتجريم الصحافة، دار الشروق، القاهرة، 2008، ط 1، ص 96.
  4. بيتنز، روبرت، تاريخ الرقابة على المطبوعات، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2008، ص27.
  5. ياسين، صباح، الإعلام حرية في انهيار، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ط 1، ص 18.
  6. الزرن، جمال، تدويل الإعلام العربي: الوعاء، الوعي، الهوية، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، 2007، ط 1، ص 33.
  7. أبو زيد، فاروق، الإعلام والديمقراطية، عالم الكتب، القاهرة، 2010،  ط 1، ص 30.
  8. اليحياوي، يحيى، حصار الإعلام، منشورات عكاظ، الرباط، 2006، ص 152.
  9. الإذاعات الخاصة هي: راديو ميدي 1، راديو سوى، كازا إف إم و5 إذاعات إم إف إم، كاب راديو، شدى إف إم، هيت راديو، مدينة إف إم، راديو أصوات، راديو أطلنتيك، لوكس راديو، راديو مارس، راديو ميد، راديو بلوس بإذاعتيها.
  10. ميدي 1 سات بمساهمين متعددين مغاربة وأجانب.
  11. تشرف على هذه القنوات سلطة وصاية ممثلة في وزارة الاتصال، ويُعيَّن مديروها العامُّون بظهير ملكي.
  12. حوَّلت الحكومة المغربية أكثر من 5.5 مليارات درهم لفائدة الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة ما بين سنة 2012 إلى غاية منتصف مايو/أيار من سنة 2016، وذلك دون احتساب 60% من مداخيل رسم النهوض بالمشهد السمعي البصري الوطني التي يتم تحويلها مباشرة للشركة.
  13. يصل عدد الصحف التي تصدرها أحزاب سياسية، وفقًا لآخر إحصاء، إلى 14 صحيفة حزبية ناطقة بالعربية والفرنسية، وفيما يلي نماذج لهذه الصحف: صحيفة الاتحاد الاشتراكي التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وصحيفتا العلم و”l’opinion” التابعتان لحزب الاستقلال، وصحيفة التجديد التابعة لحركة التوحيد والإصلاح، وصحيفة رسالة الأمة التابعة لحزب الاتحاد الدستوري، وصحيفة بيان اليوم التابعة لحزب التقدم والاشتراكية، وصحيفة المنعطف التابعة لحزب جبهة القوى الديمقراطية….
  14. آخر إحصاء لمكتب مراقبة توزيع الصحف بالمغرب نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
  15. بيانات وزارة الاتصال.
  16. المصدر السابق.
  17. دخلت حيز التنفيذ بعد صدورها في الجريدة الرسمية، وتضمنت المدونة القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، والقانون رقم 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين، والقانون رقم 90.13 المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة.
  18. نُشِر بالجريدة الرسمية المغربية بتاريخ 15 أغسطس/آب 2016.
  19. الخلفي، مصطفى، “حوار”، صحيفة التجديد، عدد 3871، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
  20. المرجع السابق.
  21. المادة 92 من قانون الصحافة والنشر والمغربي.
  22. صدر القانون القاضي بإحداث مجلس وطني للصحافة في الجريدة الرسمية بتاريخ 7 أبريل/نيسان 2016.
  23. المادة 2 من الباب الأول (مهام المجلس واختصاصاته) من قانون إنشاء مجلس وطني للصحافة.
  24. المادة 35 من قانون الصحافة والنشر المغربي.
  25. المادة 37 من قانون الصحافة والنشر المغربي.
  26. تقرير وزارة الاتصال المغربية 2016.
  27. المادة 5 من قانون الصحافة والنشر المغربي.
  28. كسيكس، إدريس، وبنشنَّة، عبد الفتاح، ومارشيتي، دومينيك، “المشهد الإعلامي والسُّلطة في المغرب”، ورقة قُدِّمت إلى ندوة مركز الجزيرة للدراسات “الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: دراسة حالات تركيا والمغرب وتونس”، (الدوحة، 7-8 يناير/كانون الثاني 2017).
  29. تعامل منابر إعلامية مغربية مع الزواج العُرفي لقياديين إسلاميين في غياب المهنية المطلوبة.
  30. “بنكيران غاضب من الإعلام الرسمي وهذا هو السبب”، أخبارنا، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، تاريخ الدخول: 15 فبراير/شباط 2017:

http://www.akhbarona.com/politic/189212.html

  1. “البيجيدي يقاطع ضيف الأولى”، هسبريس، 16 مايو/أيار 2016، تاريخ الدخول: 15 فبراير/شباط 2017:

http://www.hespress.com/medias/306347.html

  1. “برنامج “التيجيني”.. من الضيف؟ ومن المضيف؟”، موقع حزب العدالة والتنمية، 30 يوليوز/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 17 فبراير/شباط 2017):

http://www.pjd.ma/الاخبار/برنامج-التيجينيمن-الضيف-ومن-المضيف؟؟

  1. قرار المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري رقم 46.16 منشور بالجريدة الرسمية، عدد 6544، بتاريخ 16 فبراير/شباط 2017.
  2. الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة أطلق مجموعة إعلامية “آخر ساعة” قبل أن ينسحب فيما بعد من المجموعة كمساهم ومسيِّر، وتضم المجموعة 6 منابر إعلامية، وهي: “آخر ساعة”، ومجلة “لكل النساء”، والمجلة الثقافية “أفكار”، والمجلة الأمازيغية “تافوكت”، وأسبوعية “la dépeche”، وموقع “كشك”.
  3. بعض الجهات المالكة أو المؤثِّرة في الإعلام المغربي: Eco-médiaتمتلك (إذاعة، يوميتين، مطبعة، مدرسة)؛ Groupe News تضم (مجلتين، مواقع، تلفزة عبر الإنترنت)؛ Groupe Maroc Soir وتمتلك (يوميتين، مطبعة، مجلة، مواقع)؛ MedRadio تمتلك (إذاعة MedRadio، جريدتي الأحداث الورقية والإلكترونية، مجلة L’observateur، قناة kifacheTV )؛ Edit-Holding تمتلك (الآن، Le 360)؛ MFM Radio Télevision تضم (6 إذاعات، Challenge Hebdo, VH)؛ Caractère تمتلك (نساء من المغربLa vie éco, Femmes du Maroc, Maison du Maroc, )؛ Al Massae Média تضم (يومية، مجلة، مطبعة، موزع، موقع)؛ Atlas Press تمتلك (الأخبار، flashpresse، موزع).
  4. “الخلفي: مجال الإشهار في المغرب لا تتوفر فيه الشفافية”، هسبريس، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 17 فبراير/شباط 2017):

http://www.hespress.com/medias/48277.html

  1. الجامعي، أبو بكر، وضع الإعلام في المغرب، المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة، ص 40.
  2. المادة الأولى من قانون إحداث المجلس الوطني للصحافة رقم 90.13.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى