إعلام

تراجع أخلاقيات الإعلام العربي.. المؤثرات والتحديات

أيمن عبد العزيز: صحافي بجريدة الأهرام المصرية

 

يمر الإعلام العربي بأزمة كبيرة برزت بشكل صارخ خلال العقد الأخير، ويمكن القول بل تأكيد بأنها أزمة وجودية غير مسبوقة تؤثر في دوره المنتظر لتحقيق الرهانات المرجوة في تطور صحي وطبيعي للمجتمع .

أيمن عبد العزيز

ان ما يمر به الإعلام حاليا ليس مجرد مشكلة عادية، أو تحد تقليدي عادة ما يمر به خلال أداء رسالته،وإنما هو تحد وجودي يتعلق بطبيعة العمل الإعلامي، و احتمالات بقائه فضلا عن إمكان نموه و تطوره .

فعادة ما كان يواجه الإعلام عموما في العالم كله، وعالمنا العربي بشكل خاص عدة مشكلات و تحديات عادية مثل الاختلالات في هياكل التمويل ، أو طبيعة علاقات الملكية لوسائل الإعلام وتأثيرها على المسار الإعلامي وقيمه ، والعلاقة الإشكالية الأزلية بين الإعلام والدولة في إطار مستوى الحريات العامة، و الحدود القانونية والأخلاقية لحرية الإعلام، و الأشكال الجديدة للممارسة الإعلامية من ناحية الشكل أو المضمون ، أو مدى مصداقية و مدى انحياز ومقدار الحياد في وسائل الإعلام ،و علاقة وسائل الإعلام بعضها ببعض… إلى غير ذلك من التحديات المعروفة تاريخيا والتي كان الإعلام يواجهها في هذا البلد أو ذاك حسب ظروفه وطبيعة النظام السياسي و الاقتصادي والثقافي فيه  .

ولكن في الفترة الأخيرة تكالبت على وسائل الإعلام عدة عوامل وتحديات و كأنما تحالفت جميعها بشكل يكاد يعصف بطبيعة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في حياة الناس كما عرفت عبر العصور.

ويمكن تقسيم تلك التحديات إلى :

تحديات اقتصادية،و سياسية،و بشرية،وثقافية من جانب،و بنيوية تتعلق ببنية وسائل الإعلام ذاتها والعلاقة بينها و بين بعضها البعض ومدى جدوى بعضها في عصر التكنولوجيا المتطورة من جانب أخر ، بالإضافة إلى تداخل كل تلك العوامل مجتمعة في التأثير الكبير على الإعلام ودوره.

 

أولا : التحديات الاقتصادية ومنها على سبيل المثال :

– اختلالات حادة للهياكل المالية نتيجة لزيادة تكلفة التشغيل  الكبيرة قياسا على العوائد المالية، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام تدخل رأس المال والمتحكمين به، وطغيانه وتهديده لكل القيم المهنية والأخلاقية، والقانونية التي تحكم تقليديا دور وسائل الإعلام في المجتمع .

– تراجع مصداقية و انتشار كثير من وسائل الإعلام نتيجة لعوامل كثيرة ومتداخلة بما يعمق الأزمات المالية التي يعانيها الإعلام أصلا.

– المنافسة الكبيرة و الشرسة من وسائل إعلام عالمية للإعلام المحلى و الإقليمي و هو أيضا مما يعمق الأزمة الاقتصادية في نهاية المطاف لأجهزة الإعلام المحلية ويزيد من معاناتها.

– عزوف أصحاب رؤوس الأموال عن العمل في المجال الإعلامي نتيجة لعوامل كثيرة اقتصادية، و سياسية، مما يؤدى إلى تراجع حاد في وسائل الإعلام الجادة والمحترمة في مقابل انتشار وسائل أخرى هامشية وتافهة ومدمرة تعمق بشكل عام من أزمة الإعلام.

 

ثانيا: التحديات السياسية، ونجد أنها تنتشر وتظهر بشكل واضح في الإعلام عموما وفى عالمنا العربي بشكل أساسي ، و تتمثل في:

– زيادة التدخلات السياسية في دور الإعلام، بل وسيطرتها شبه الكاملة و الاحتكارية على أغلب وسائل الإعلام بأشكال متعددة منها المالي و القانوني والسلطوي أحيانا.

– تراجع إيمان النظم السياسية الحاكمة في عالمنا العربي بشكل  كبير وملحوظ بأهمية الإعلام الحر، بل و استغراقها في العمل على توجيه الإعلام بشكل مباشر وكامل – في نماذج بدول عديدة -دون مراعاة لأي قيمة مهنية أو اجتماعية بناءة للإعلام في المجتمع.

– التراجع الحاد لسقف الحريات العامة بشكل أساسي وما يستتبعه من تقييد لوسائل الإعلام ، والجماعات والروابط والنقابات الإعلامية المحلية ،وممارسة أقصى الضغوطات عليها لإخضاعها لسيطرة الحكم أو الجماعات المتحالفة معه و لجعلها تدور في فلكه.

– غياب رؤى سياسية مجتمعية واضحة و هو ما يؤثر سلبا على غياب اى استراتيجيات بناءة في التعامل مع الإعلام ودوره في المجتمع بل والتضييق على عمل الإعلام بشكل يؤدى لتغييب الوعي المجتمعي من أجل إحكام السيطرة عليه والالتفاف على دوره التنويري  والتعليمي والتربوي.

 

ثالثا :التحديات البشرية والثقافية ومنها :

– غياب الكوادر  والخبرات المثقفة والمؤهلة علميا و ثقافيا عن بعض وسائل الإعلام ، نتيجة للتراجع الثقافي العام، وضعف النظم التعليمية،و غياب التكوين العلمي والتدريب العملي المهارى.

– ضعف الإقبال على متابعة وسائل الإعلام المحلية نتيجة للتأثيرات الضخمة لأجهزة الإعلام العالمية نتيجة لتراجع الإعلام المحلى وتآكل مصداقيته واحترافيته بمرور الوقت.

– التطورات التكنولوجية ، و التغيرات السياسية وما أفضت إليه من انصراف نسبة كبيرة من متابعي الإعلام التقليدي إلى متابعة وسائل أخرى منها وسائل التواصل الاجتماعي و ما يسمى الـ “سوشيال ميديا ” social media ، عبر الهواتف المحمولة و أجهزة الكمبيوتر اللوحية،و ضغط عنصر الوقت على البشر ، والميل البشرى لمتابعة مجرد العناوين، والابتعاد عن متابعة إعلام محلي موجه بالكامل ،وبشكل صارخ وفج يخلو من أي قيمة معرفية، أو ترفيهية حقيقية.

– تراجع الذوق العام والذائقة الثقافية والمعرفية الجادة لدى جمهور المتابعين للإعلام بشكل عام نتيجة لغياب إعلام جاد، وتكريس انتشار النماذج التافهة والسطحية المدمرة اجتماعيا.

 

رابعا: تحديات بنيوية تتعلق بوسائل الإعلام و تتمثل في :

 

– المنافسة الحادة بين الإعلام الورقي المكتوب (صحف ومجلات) ، والإعلام الاليكتروني الذى فرضته التطورات التكنولوجية، و الذي تندمج فيه كل الوسائط الإعلامية المعروفة بشكل يكاد ينهى تماما وجود الإعلام المكتوب والمسموع  .

– تراجع القيم المهنية لبعض وسائل الإعلام نتيجة لعوامل كثيرة أهمها الضغط الاقتصادي الكبير على أجهزة الإعلام جعلها تركز فقط على الإثارة والفضائحية ،واستدعاء وإثارة القضايا و الموضوعات الهدامة مقابل اى قيمة جادة ومحترمة بسبب اللهاث المحموم وراء تحقيق المكاسب واستمرار البقاء .

– غياب الأطر القانونية والأخلاقية المنظمة لعمل وسائل الإعلام في بعض الدول، وعدم احترامها إن وجدت ،بما يؤدى في النهاية إلى تراجع الإعلام و انهياره.

 

و قد أدت كل تلك التحديات والظروف السلبية وتضافرها معا في الوقت الحالي إلى أزمة عميقة للإعلام عموما والعربي بشكل خاص، و أدت إلى تراجع يكاد يصل للانهيار الكامل لكل المحددات والمعايير المهنية والأخلاقية التي تحكم الرسالة الإعلامية،بل وحرفت المسار الجاد والهادف والبناء للإعلام وحولته إلى إعلان صريح وفج ، ودعاية عامة مفضوحة سواء لأفراد، أو نظم، أو لقيم و منتجات سلبية تافهة و ممسوخة ابتغاء البقاء على الساحة و سعيا للكسب المادي فقط ،على حساب اى قيمة إعلامية أو ثقافية أو مجتمعية بناءة يقدمها الإعلام للمجتمع، وهو ما تعانى منه اغلب وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة وحتى المشاهدة في عالمنا العربي مما نعيشه ونعاينه يوميا من حولنا .

ولكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحا الآن مطروحا وهو:

 

هل مايزال هناك أمل في علاج وإصلاح الإعلام مهنيا وأخلاقيا ممكنا ؟؟

والإجابة بوضوح نعم.. و ذلك من خلال معالجة أوجه القصور ، والإشكاليات السياسية والاقتصادية والقانونية والتكنولوجية والقيمية التي تواجه الإعلام ، وبشرط أساسي وهو توافر الإرادة السياسية للدولة، و ضمان توافر مناخ كاف من الحريات العامة الحتمية اللازمة لإنهاض الإعلام من كبوته وتحقيق انطلاقة بناءة نرجوها لمجتمعاتنا العربية.

فبدون إرادة سياسية تؤمن بالحريات العامة والفردية، و تؤمن بدور الإعلام في بناء المجتمع، و نموه الطبيعي والصحي، لا يمكن الحديث عن إعلام محترم ومهني لائق وفعال ، فالإرادة السياسية، ومناخ الحريات العامة والفردية هي التي تتحكم سلبا أو إيجابا في طبيعة وجود الإعلام في المجتمعات، وهى التي تحكم كافة العناصر  الأخرى المؤثرة في بنيته والحفاظ على دوره الصحي في المجتمع .

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى