الصحافة الاستقصائية في عصر الذكاء الاصطناعي: هل نحن أمام جيل جديد من الصحافة؟
الصحافة الاستقصائية في عصر الذكاء الاصطناعي: هل نحن أمام جيل جديد من الصحافة؟
تشكل الصحافة الاستقصائية أحد أبرز فروع الصحافة التي تعتمد على البحث العميق والتحقيق في قضايا ذات أهمية عامة بهدف كشف الحقائق المستترة. ومع التطور التكنولوجي الهائل، دخل الذكاء الاصطناعي إلى معظم المجالات، بما فيها الصحافة الاستقصائية. يطرح هذا التداخل سؤالاً محوريا: “هل يعزز الذكاء الاصطناعي دور الصحافة الاستقصائية أم يهدد جوهرها التقليدي؟”.
نستعرض هنا تأثير الذكاء الاصطناعي على الصحافة الاستقصائية، مع تقديم بعض التعريفات والشهادات التي تسلط الضوء على هذا التحول.
مفهوم الصحافة الاستقصائية
تعرف الصحافة الاستقصائية بأنها نوع من العمل الصحفي الذي يعتمد على البحث العميق وجمع المعلومات والوثائق من مصادر متنوعة، بهدف كشف المخفي وإظهار الحقائق للجمهور.
بوب وودوارد، الصحفي الأمريكي الشهير، يرى أن “الصحافة الاستقصائية تتطلب الصبر والتفاني لكشف ما لا يريد الآخرون أن يُعرف”. أما الصحفي البريطاني جون بيلجر يرى أنها “شكل من أشكال السلطة الرابعة التي تتحدى المؤسسات القوية نيابة عن الجمهور”.
هذه التعريفات تؤكد أن الصحافة الاستقصائية ترتبط بالمهنية العالية والحياد التام، لكنها تواجه تحديات كبيرة في عصر يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا.
شهادات من كتب عالمية:
“The Elements of Journalism” by Bill Kovach and Tom Rosenstiel
يشير الكتاب إلى أن الصحافة في عصر التكنولوجيا يجب أن تحافظ على المبادئ الأساسية مثل المصداقية والاستقلالية، ويؤكد على أن الأدوات التقنية هي وسيلة لتعزيز العمل الصحفي وليس بديلاً عنه.
“Automating the News” by Nicholas Diakopoulos
يرى المؤلف أن الذكاء الاصطناعي يقدم فرصاً غير مسبوقة للصحافة الاستقصائية، لكنه يحذر من خطر أن تصبح التكنولوجيا حلاً جاهزاً لكل شيء دون فهم عميق للسياق.
“Investigative Journalism in the Digital Age” by Maryjo Webster
يشدد الكتاب على أن استخدام التكنولوجيا يجب أن يكون مصحوباً بتدريب الصحفيين على تحليل البيانات ومواجهة التحديات القانونية والأخلاقية.
الذكاء الاصطناعي وأدواته في الصحافة الاستقصائية
يمثل الذكاء الاصطناعي أداة قوية قادرة على دعم الصحافة الاستقصائية في تحليل البيانات والكشف عن الحقائق بسرعة وكفاءة. ومع ذلك، يجب أن يتم استخدامه كوسيلة مساعدة وليس كبديل عن الصحفي. التحدي الأكبر يكمن في تحقيق التوازن بين الحفاظ على المصداقية الإنسانية والاستفادة من القدرات التقنية.
من الفوائد التي حققها الذكاء الاصطناعي على الصحافة الاستقصائية، نجد بالدرجة الأولى مسألة تحليل البيانات التي تمكّن للذكاء الاصطناعي معالجة ملايين الوثائق بسرعة فائقة لاستخراج الأنماط والمعلومات المهمة، ولعل خير مثالعلى ذلك استخدام خوارزميات التعلم الآلي لتحليل “وثائق بنما” التي تضمنت ملايين الصفحات حول التهرب الضريبي.
كما أن هناك مسألة الكشف عن التزييف العميق، إذ توفر أدوات الذكاء الاصطناعي القدرة على تحليل الصور والفيديوهات لاكتشاف التزييف أو التلاعب، (أفضل أدوات وتقنيات لكشف التزييف العميق).
وتسهم أدوات الذكاء الاصطناعي في الوصول إلى وثائق متعددة ومتنوعة بالبحث في قواعد بيانات ضخمة والاطلاع على مصادر متعددة في وقت قصير.. هذا إلى جانب تحليل وسائل التواصل الاجتماعي بعملية رصد للاتجاهات وتحليل للنقاشات العامة من أجل الكشف عن قضايا ذات اهتمام جماهيري.
مقابل ذلك، نجد أن هناك تحديات وجب على الصحافي الاستقصائي، الاحتراز منها، في تعامله مع أدوات الذكاء الاصطناعي.. أولى تلك التحديات تتمثل في فقدان الحس الإنساني، وذلك لأن الصحافة الاستقصائية تعتمد على الحكم الشخصي للصحافي، وهو ما لا يمكن للذكاء الاصطناعي تقديمه. ثم يأتي تحدي تقليص دور الصحافي التقليدي، بحيث يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل بعض المهام الأساسية، ما قد يقلل من فرص العمل ويؤثر على جودة المحتوى، ليأتي تحدي المخاطر الأخلاقية الذي قد يؤدي الاعتماد على الخوارزميات إلى انتهاكات خصوصية أو تحيزات خفية نتيجة البرمجة غير المحايدة.
الدور الذي لعبته “أريج” في تطوير الصحافة الاستقصائية عربيا
تُعتبر شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، التي تأسست عام 2005، إحدى أبرز المبادرات التي ساهمت في تطوير الصحافة الاستقصائية في العالم العربي.
ركزت “أريج” على تمكين الصحفيين العرب من إنتاج تحقيقات استقصائية مهنية تسلط الضوء على القضايا الحساسة التي تهم المجتمعات العربية. كما قدمت تعريفات دقيقة ومنهجية للصحافة الاستقصائية ساهمت في تعزيز فهمها وتطبيقها في المنطقة.
تعريف الصحافة الاستقصائية وفق “أريج“
وفقا لـ “أريج”، تُعرف الصحافة الاستقصائية بأنها: “عمل صحفي عميق وممنهج يهدف إلى كشف الحقائق المستترة أمام الجمهور، باستخدام مهارات البحث والتحليل والكتابة الإبداعية مع الالتزام بالحياد والمهنية.
وتضيف الشبكة أن هذا النوع من الصحافة يتطلب صبرا ومصادر موثوقة، وهو موجه لكشف جوانب الفساد أو إساءة استخدام السلطة التي تؤثر على حقوق الناس وحياتهم اليومية.
وتعكس تعريفات “أريج” فلسفتها التي تعتمد على تحقيق الاستقلالية، وتعزيز الشفافية في العمل الصحفي، مما جعلها مرجعا أساسيا لتطوير هذا المجال عربيا، بحيث عملت شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية، على تنظيم دورات للتدريب والتأهيل، وذلك من خلال تقديم العشرات من الدورات التدريبية للصحفيين العرب لتطوير مهاراتهم في مجالات متعددة مثل تحليل البيانات، التحقق من المعلومات، والتحقيق الرقمي.
كما استفاد أكثر من 3000 صحفي من برامج الشبكة التي ركزت على تعزيز المهارات العملية والنظرية اللازمة لإنتاج تحقيقات استقصائية عالية الجودة. وساعدت الشبكة الصحفيين على إنتاج مئات التحقيقات التي تناولت قضايا جوهرية مثل الفساد، حقوق الإنسان، الصحة العامة، والبيئة.
من أبرز تحقيقاتها: الكشف عن ممارسات فساد في قطاع التعليم، وظروف العمالة المهاجرة في بعض الدول العربية. إضافة إلى ذلك، دعمها استخدام التقنيات الحديثة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، في تحليل البيانات الضخمة ورصد التفاعلات الاجتماعية، مما ساهم في إثراء العمل الاستقصائي.
كما عملت الشبكة على ترسيخ مفهوم الصحافة الاستقصائية في بيئات إعلامية تقليدية أو معادية لهذا النوع من العمل الصحفي. وقدمت أدلة إرشادية للصحفيين العرب حول إنتاج تحقيقات مهنية تراعي السياقات المحلية، وشجعت على التعاون مع شبكات استقصائية دولية لنقل الخبرات وتطوير العمل الصحفي في المنطقة. وكان هذا التعاون بالنسبة لها أساسيا في تبني معايير عالمية تتعلق بالدقة والمهنية.
تأثير “أريج” على البيئة الصحفية في العالم العربي
دفعت تحقيقات “أريج” بعض الحكومات والمؤسسات العربية إلى مراجعة سياساتها واتخاذ إجراءات لمكافحة الفساد أو تحسين الأداء في قطاعات معينة. كما ساهمت الشبكة في خلق جيل جديد من الصحفيين العرب القادرين على التعامل مع التحديات الكبيرة التي تواجه الصحافة الاستقصائية في المنطقة، مثل الرقابة الحكومية وغياب قوانين حماية الصحفيين. وأثبتت “أريج” أن العمل الصحفي في العالم العربي يمكن أن يكون مهنيا ومؤثرا، حتى في بيئات سياسية معقدة.
ومن خلال مساهماتها الكبيرة، أثبتت “أريج” أن الصحافة الاستقصائية في العالم العربي ليست فقط ممكنة، بل ضرورية في مواجهة التحديات المجتمعية الكبرى. كما أن تعريفاتها وأدواتها ساعدت على وضع أسس منهجية لهذا النوع من الصحافة عربيا. ومع تطور الذكاء الاصطناعي، يمكن لـ “أريج” أن تضطلع بدور جديد يتمثل في دمج الأدوات التكنولوجية الحديثة في العمل الصحفي، مع ضمان الحفاظ على المصداقية والحياد.
خلاصة لابدّ منها..
تُعدّ الصحافة الاستقصائية أحد أعمدة الإعلام المهني الذي يسعى لتحقيق الشفافية ومساءلة السلطات المختلفة، وهو ما يجعلها ضرورة ملحة في زمن تنتشر فيه الأخبار الزائفة والمعلومات المغلوطة.
فمن خلال البحث العميق والاعتماد على الأدلة الموثوقة، يسهم هذه الجنس الصحافي الراقي، في الكشف عن الحقائق المستترة التي تؤثر في حياة الأفراد والمجتمعات. لذلك، فإن اهتمام وسائل الإعلام بتطوير قدرات الصحفيين الاستقصائيين وتوفير الموارد اللازمة لهم، إضافة إلى تكوينهم المستمر عبر دورات تكوينية، يعزز من دور الإعلام في حماية الصالح العام ومواجهة الفساد والانحرافات الاجتماعية.
علاوة على ذلك، فإن تبني الصحافة الاستقصائية يعزز من مصداقية وسائل الإعلام ويزيد من ثقة الجمهور بها. فهي ليست فقط وسيلة لنقل الأخبار، بل أداة فعالة لتسليط الضوء على قضايا هامة مثل حقوق الإنسان، البيئة، والفساد الإداري.
ومع التطور التكنولوجي، أصبحت هذه الصحافة أكثر كفاءة بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي والإحصائيات التي تساعد في التحليل الدقيق والتوثيق. لذا، يبقى من المهم أن تستثمر المؤسسات الإعلامية في تعزيز هذا النوع من الصحافة لتظل منصة فاعلة في خدمة المجتمع ونقل الحقائق.
دليل حديث من شبكة الصحفيين الدوليين حول “الذكاء الاصطناعي في الصحافة: الأخالقيات وأفضل الممارسات”.
International Journalists’ Network (IJNet)