حرية الصحافة بين الشعارات والواقع: التزام لا يقبل المساومة

حسن اليوسفي المغاري
فواصل.. بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة
حرية الصحافة بين الشعارات والواقع: التزام لا يقبل المساومة
في كلّ ثالث من ماي، يحتفي العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة. مناسبة تكرّس في ظاهرها قيم الحرية والتعددية وكرامة الصحافي، لكنها، في عمقها، تذكير مستمر بأن هذه الحرية تظل هشّة، مقيّدة، مهدّدة في كثير من بقاع العالم، بل حتى في الدول التي تدّعي الديمقراطية الواسعة والانفتاح.
“الصحافة حرية والتزام وأخلاق”، شعاري الذي يبدو مثاليا، لكنه واقع يصطدم بجدران سميكة من الرقابة، والضغوط السياسية والاقتصادية، والتشهير، والعنف اللفظي والجسدي. فهل نحن فعلا نعيش زمن “حرية الصحافة”؟ أم أننا نُعيد اجترار عبارة تحمل من المجاز أكثر مما تحمل من الحقيقة؟
■ بين التنظير والممارسة.
إذا كانت حرية الصحافة تعني”أن تقول للناس ما لا يريدون سماعه”، فإن هذه الحرية، في معظم السياقات العربية، لا تزال محصورة في هوامش ضيقة، وغالبا ما تكلّف أصحابها السجن أو النفي أو التشويه.
في السنوات الأخيرة، رأينا كيف تحوّل عدد من الصحافيين المستقلين إلى ضحايا لمحاكمات جائرة، أو إلى أصوات مغتربة في المنافي، فقط لأنهم التزموا بمبدأ: “الصحافة سلطة تفضح الفساد والخروقات”.
وفي هذا السياق، لا يمكننا نسيان مقولة إن “الحرية تؤخذ ولا تُعطى، والصحافي الحقيقي لا يستجدي الحرية، بل يدفع ثمنها.” هذا الثمن بات باهظا، في عالم تتحكم فيه لوبيات المال والإعلام الموجّه، حيث باتت الاستقلالية المهنية مرادفا للعزلة أو الإقصاء.
■ الصحافة بين السلطة والتبعية
المعادلة الصعبة تكمن في المحافظة على استقلالية الصحافي، في ظل مشهد إعلامي مأزوم اقتصاديا، تلعب فيه الإعلانات والتمويل السياسي دور المُوجّه للمحتوى. ولعل أخطر ما يهدد حرية الصحافة اليوم، ليس فقط القمع المباشر بشتى الأنواع والصنوف، بل الاستتباع الطوعي، أي تحوّل بعض المؤسسات الإعلامية إلى أدوات دعائية فاقدة للمهنية، تبيع الخط التحريري لمن يدفع أكثر، فغاب الضمير المهني وحضر “الاسترزاق” تحت عدة مسميات.
ولذلك، ستظل الصحافة الجيدة هي التي تفضح السلطة، لا التي تتحالف معها.. لأن حرية الصحافة لا تكون بترديد الشعارات، بل بإرساء ممارسات نقدية مستقلة، لا تخشى الكشف ولا تتردد في مساءلة أصحاب القرار، أيا كانوا.
■ هل حرية الصحافة مطلقة؟
الحديث عن حرية الصحافة لا يعني إطلاق العنان لكل ما يُكتب أو يُنشر، حرية الصحافة لا تعني التسيّب، بل الالتزام بنشر الحقيقة. وهنا تبرز مسؤولية الصحافي أمام الضمير المهني، وأمام الأخلاقيات التي تمنع استباحة الحياة الخاصة أو نشر الأكاذيب أو إثارة النعرات أو استمالة طرف على آخر… فالصحافة لا تكون حرّة إلا حين تظل مرتبطة بالحقيقة، بالتحقق، بالعدالة في تقديم الوقائع،” أن تكون صحافيا حرا لا يعني أن تكون فوق القانون، بل أن تكون صوت القانون حين يسكت الجميع.”

■ فلسطين: ميدان اختبار قاسٍ لحرية الصحافة
في سياق الحديث عن حرية الصحافة لهذه السنة، لا يمكن تجاهل الوضع الكارثي الذي يعيشه الصحافيون في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة. فمنذ أحداث أكتوبر 2023، تحوّلت غزة إلى أخطر مكان في العالم على الصحافيين. وفقا لتقارير متعددة، قُتل أكثر من 170 صحافيا في غزة منذ بداية الأحداث، مما يجعلها الفترة الأكثر دموية للصحافيين منذ أن بدأت لجنة حماية الصحافيين في جمع البيانات عام 1992.
هذه الأرقام تعكس واقعا مريرا، حيث يُستهدف الصحافيون بشكل مباشر، وتُقيّد حرية التعبير بشكل صارخ، مما يضع حرية الصحافة على المحك ليس فقط في المنطقة، بل على عاتق المنتظم الدولي جميعا المتشدق بحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، على عاتقه فضح المجازر التي ذهب ضحيتها العديد من الصحافيين، مستهدَفين استهدافا مباشرا من طرف جيش الاحتلال، والسبب واضح.. طمس الحقيقة.
■ رسالة غوتيريش 2025: دعوة لحماية الصحافة
في رسالته بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة لعام 2025، أكد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، على أن “حرية الناس تعتمد على حرية الصحافة”. ودعا إلى “دفع العالم نحو نظام معلوماتي أكثر إنسانية”، مشددا على أن “الصحافة الحرة ليست خيارًا، بل ضرورة”.
هذه الرسالة تأتي في وقت تتزايد فيه التحديات أمام الصحافيين، وتُبرز الحاجة الملحة لحماية حرية الصحافة كركيزة أساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان.
■ نحو صحافة تقاوم وتلتزم
في خضم كل هذا، تظل الصحافة مهنة نبيلة، تحتاج إلى من يؤمن بأنها أكثر من مجرد وظيفة، بل مسؤولية اجتماعية. الحرية الحقيقية، كما قال Albert Camus، “هي عدم الكذب”، وهذا هو جوهر الصحافة: مقاومة الإغراءات، الوقوف في وجه الخوف، النشر بأمانة والالتزام بقول الحقيقة لا شيئا غير الحقيقة.
الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة لا يجب أن يكون طقسا خطابيا، أو مناسبة لتمجيد الذات، أو قراءات في مؤشرات حرية التعبير.. بل هو لحظة صادقة لإعادة طرح السؤال المؤلم: ما موقع الصحافة في هذا العالم الذي يخاف من الكلمة الصادقة؟
التزام الصحافة لا يقبل المساومة..
الصحافة حرية والتزام وأخلاق
كل عام ونحن ملتزمون بقول الحقيقة
كل عام ونحن متشبثون بإنسانيتنا، بأخلاقنا المهنية، بكرامتنا.