ثقافة وإعلام

الإمبراطوريات الإعلامية.. الصحافة تحت رحمة رجال الأعمال

ثقافة وإعلام

 

الإمبراطوريات الإعلامية.. الصحافة تحت رحمة رجال الأعمال

عن مجلة الصحافة

نزار الفراوي

 

يقوض تركيز وسائل الإعلام في يد عدد صغير من رجال الأعمال الأغنياء، الوظيفة الأساسية للصحافة: مراقبة السلطة. هكذا تصبح “الصحافة” مجرد سلعة خاضعة لمنطق الربح والخسارة تقتل التنوع وتهدد المسار الديمقراطي. يختصر إمبراطور الإعلام موردوخ التحكم في وسائل الإعلام بعبارة واضحة: “الاحتكار شيء سيئ…إلا إذا حاز المرء شيئا منه”.

 

التعددية الإعلامية مطلب ديمقراطي لفتح الفضاء السياسي، وإملاء اقتصادي تفرضه حكامة النظام الرأسمالي. لكن تبادل الخدمات بين السلطتين السياسية والاقتصادية وتكاملهما أفضيا إلى مسلسل ينقض المبدأ الأصلي للتعددية؛ من خلال تراكم الاتجاه نحو التركيز الاقتصادي لوسائل الإعلام في يد جماعات المصالح، مما يكرس تعددية متحكماً فيها.

في بلدان الجنوب والشمال على السواء، ترفع الضمائر اليقظة والنخب المهمومة بمستقبل الديمقراطية شعارات الحذر من القبضة المالية الاحتكارية على الإعلام التي تشكل خطرا على بنيات النظام السياسي وقيمه، وعلى حقوق الإنسان بوجه عام والحق في الخدمة العمومية بشكل خاص. لكن الواقع عنيد، وازدهار العقيدة النيوليبرالية ينتج موجات دفع معنوية وبنيوية تكرس الأحادية والتنميط وتبتلع هوامش التعددية.

 

في قبضة الأخطبوط

ليس تركيز ملكية وسائل الإعلام مجرد انحراف اقتصادي، بل هو مشكلة أساسية بالنسبة للديمقراطية بالنظر إلى الإمكانيات المتاحة أمام تحويل السلطة الاقتصادية إلى سلطة سياسية، ومخاطر التأثير على الرأي العام وعلى سير المؤسسات الديمقراطية.

يؤدي التركيز أيضا إلى إعادة النظر في قيمة المادة الإعلامية التي تصبح سلعة خاضعة لمصلحة المقاولة خارج منطق المصلحة العامة. وأول من يدفع الثمن هو الصحافة المهنية المضطرة إلى التأقلم مع أهداف التدبير المقاولاتي المهووس بالأرقام وإكراهاته، فتكون النتيجة بالنسبة للمحتوى ضغطاً أكبر في اتجاه تبني أنظمة التدبير الاقتصادية المتمركزة حول الربح؛ عبر تقليص البعد الإخباري والتحليلي وتقزيم مساحات قضايا الشأن العام.

أسماء مثل موردوخ وبرلسكوني وكونراد بلاك استثمروا في هذا الباب وتحكموا في مجموعات اختلط فيها النفوذ الاقتصادي بالأجندات السياسية. من جهة أخرى، يؤدي التركيز إلى تكريس الاتجاه نحو إرضاء المعلنين، ما يفرز في النهاية نوعا من التماثل في المضامين الإعلامية. إنه منتوج سيصبح تلقائيا متجها إلى خدمة مصالح المالكين، في أجواء من الرقابة الذاتية، وتغييب الروح النقدية، وتنميط المنتوج، ونقص في الجودة تمليه قوانين السرعة وصناعة الفرجة الرخيصة، فضلا عن التداعيات السوسيو مهنية المتمثلة أساسا في تقليص مناصب الشغل.

يؤدي التركيز الإعلامي، أيضا، إلى نسف المنافسة الاقتصادية بين المؤسسات الإعلامية، وضرب الحدود بين الصحافة التي تخدم الجمهور والعلاقات العامة الموجهة لخدمة العملاء، كما يضع عراقيل أمام ولوج السوق بالنسبة للمقاولات الجديدة، ما يعني ضربا لإمكانيات التنوع في سوق المتعهدين.

وبالطبع لا يمكن إغفال الأبعاد السياسية الخطيرة التي يحذر منها الكثير من الباحثين والديمقراطيين، بخصوص تداعيات التركيز على السلطة السياسية؛ فانبثاق مجموعات كبرى تحتكر المشهد الإعلامي يفسح المجال أمام فرض المصالح الخاصة في الفضاء العمومي، وتوسيع نطاق تأثير المالكين والمساهمين، وعرقلة السياسات العمومية الرامية إلى ضبط المشهد الإعلامي وتوجيه النقاش حول السياسات الصناعية والضرائب… إلخ، ليس من منطلق ما ينتظره الجمهور بل وفق منظور فئوي مصلحي.

وفي المجال الثقافي، يفرض التركيز تأثيرا متناميا على مسلسل تشكيل الرأي العام ويؤدي إلى تضاؤل فرص التعبير الثقافي بسبب نقص المنصات المناسبة، كما يسهم في تشكيل أنظمة مرجعية إعلامية بالنسبة للأطفال والشباب من خلال برامج موجهة يتزايد فيها حضور المرجعيات الغربية الأحادية في الثقافة الوطنية (1).

 

أجراس إنذار

يرى المفكر الفرنسي آلان تورين أن وسائل الإعلام اليوم – وخصوصا التلفزيون القائم على الجماهيرية- لا تخدم الفعل الديمقراطي، بل تسهم في إفقار الفضاء العمومي أمام غزو الإعلان للحقل الإعلامي. هكذا، اشتدت المنافسة من أجل البقاء والصدارة اعتمادا على عائداته التي تَدفَع بدورها الإعلام إلى المراهنة أكثر على محتوى أكثر استهلاكية في مضامينه الثقافية والإخبارية.

ويستفيض المفكر الخبير في التواصل يورغن هابرماس في توصيف هذا الوضع المختل؛ بالنسبة له، يتمثل الهدف الأساسي للمؤسسات الإعلامية التجارية في الحفاظ على مستوى محدد من الاستهلاك عبر قوانين السوق. والنتيجة هي انتشار المحتوى المسلي الذي يتصل عضويا بالإعلان، ولا يسهم في إغناء الفضاء العمومي للنقاش والتحفيز على المبادرة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

إن المعلنين ومتعهدي العلاقات العامة يتقاسمون الهدف من خوض اللعبة الإعلامية: بناء انخراط الرأي العام المستهدف أو الشريحة المصوتة في مسارات معينة مبرمجة نتيجة لتلقي المادة الإعلامية، سواء من حيث صياغة الأخبار أو منظومة البرمجة ككل (2).

أما عن تأثير التركيز على الممارسة الإعلامية نفسها، فيتساءل الصحفي والكاتب سرج حليمي: “في ظل الشركات الاحتكارية العملاقة والمليارديرات من أمثال بيل غيتس وروبرت مردوخ وجان لاغاردير وغيرهم ممن يملكون الصحف ودُور الطبع التي نكتب فيها ولها، كما يملكون الإذاعات وقنوات التلفزيون التي نتحدث ونظهر عبرها، هل ما نزال نحن الصحفيين والمفكرين قادرين على أن نؤدي دورنا المعارض للسلطة، وأن نكون صوت من لا صوت لهم؟”.

ويربط الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي بين ظاهرة التركيز في ملكية وسائل الإعلام الدولية والزيادة الضخمة في مساحات الإعلان، وبالتالي انخفاض عنصر التنوع ومصداقية المعلومات، فضلا عن اكتساح التيار الاستهلاكي للمجالات القومية من خلال مجموعات عملاقة شاملة ومهيمنة يحركها الربح ووسيلتها تشكيل الجمهور وفق نمط خاص؛ حيث يدمن أسلوب حياة قائما على حاجيات مصطنعة ونزعة فردية كاسحة. إنه جمهور يراد له ألا يدخل بصفته معاملا في الساحة السياسية، وألا يزعج أو يهدد نظام القوى أو السيطرة في المجتمع (3).

ويتوقف السوسيولوجي الإنجليزي أنتوني غيدنز عند العلاقة الملتبسة لمجموعات الاتصال مع الديمقراطية. هذه المجموعات لا تسعى بالنسبة له إلى التعبير عن حقائق الفضاء العمومي وتوازناته، بل تتيح التركيز لعمالقة صناعات الاتصال، الذين لم يجربوا يوما رهان التصويت الديمقراطي، والسيطرة على سلطات هائلة. ومن هذا المنطلق، يدافع غيدنز عن مسار يعزز إدارة هذه المؤسسات الهوجاء من قبل المؤسسات الديمقراطية؛ لأن تركيز وسائل الإعلام يعني تركيز السلطة الاقتصادية والمجتمعية في يد المؤسسات المهيمنة. وهذا خطر قاتل بالنسبة للديمقراطية؛ سواء على صعيد المؤسسات أو الثقافة.

ومن اللافت أن نقد التركيز لا يصدر فقط من الباحثين المعنيين بمصير المجتمع الديمقراطي وقضايا الإعلام وغيرها، بل من صانعي هذه الظاهرة الاقتصادية الإعلامية أنفسهم؛ يقول إمبراطور الإعلام موردوخ بلهجة لا تخلو من سخرية: “الاحتكار شيء سيئ…إلا إذا حاز المرء شيئا منه”. ومن جانبه يعترف تيد تورنر، مالك أول مجموعة للاتصال في العالم، أن من الصعب إيجاد جوانب إيجابية لهذا الوضع: “هناك فعلا 5 شركات تتحكم في 90 في المئة مما نقرأ ونشاهد ونسمع. هذا ليس أمرا صحيا” (4).

 

خطر في الشمال.. خطر في الجنوب

في أبريل/نيسان 2004، صادق البرلمان الأوروبي على قرار حول مخاطر انتهاك حرية التعبير والإعلام في الاتحاد الأوروبي، ويروم هذا القرار بلورة توجيهات متعلقة بحماية التعددية في الإعلام الأوروبي في سياق تركيز قوي. وحذر البرلمانيون من أن الديمقراطية تصبح مهددة إن أصبح صوت واحد يملك سلطة بث وجهة نظر وحيدة في وضع هيمنة شديدة.

واعتبر القرار أن حركة الشركات الإعلامية عبر القومية والتي تهيمن على السوق تمثل تهديدا للصناعة الأوروبية ولحماية التعددية في الآن ذاته.

لقد أصبحت تلك المؤسسات أقل عددا، وأصبح ولوج السوق أكثر صعوبة، والحريات التحريرية أكثر تعرضا للضغط والتضييق. كل ذلك يؤدي إلى تقليص هامش حرية التعبير عن آراء مستقلة وتقليص تنوع الحياة الثقافية والاجتماعية.

وظهرت هذه المشاكل مع تحول الشركات الإعلامية عبر القومية إلى مؤسسات مهيمنة. وأثار البرلمان الأوروبي الانتباه إلى الانعكاسات السلبية للتركيز عبر القومي للمؤسسات الإعلامية، خصوصا على صعيد التعددية الإعلامية والتنوع الثقافي واللغوي في أوروبا.

هذا التركيز يثير نوعين من القلق: الأول يهم تناقص عنصر التنوع في الإنتاج، والثاني يحيل إلى التأثير المحتمل على مساهمة الإعلام في تنشيط الفضاء العام، وهو دور مرتبط بالوظيفة الديمقراطية للإعلام.

إن ظاهرة التركيز الإعلامي باتت من الخطورة بمكان بالنسبة للممارسة المهنية؛ ففي دراسة تبنتها “مراسلون بلا حدود” وأنجزتها خبيرة اقتصاد الإعلام جوليا كاجي، كُشِفَت مخاطر تركيز وسائل الإعلام في فرنسا في يد بعض المليارديرات، بناء على معطيات جُمِعَت بين ديسمبر/أيلول 2015 وأغسطس/آب 2016.

وسجلت الدراسة أن التركيز المتنامي لقطاع الإعلام بفرنسا يخفي الكثير من الغموض ونقص الشفافية بخصوص عمليات حيازة الأسهم في المؤسسات. وخلصت إلى أن 51 بالمئة من المؤسسات الإعلامية بفرنسا يمتلكها مساهمون ينحدرون من قطاع المال والتأمينات، ممن وضعوا بنيات مراقبة معقدة تجعل من الصعب تحديد المساهم النهائي. ويشكل المساهمون المنحدرون من المال والتأمين ثلاثة أضعاف المساهمين من قطاع الإعلام والاتصال الذين لا يحوزون إلا 18 في المائة من القطاع (5).

وقد تسارعت دينامية التركيز في فرنسا منذ بداية العقد الثاني من الألفية، حتى إن عشر المليارديرات أصبحوا يملكون معظم المؤسسات الصحفية في البلاد، منهم اثنان من عمالقة الصناعات الحربية: داسو ولاغاردير، اللذان يسيطران على أغلب الصحف الجهوية والمجلات، حتى باتت استثناءات قليلة تصنع الاستقلالية في المشهد الفرنسي؛ من قبيل ميديابارت وإن إر جي ولوكانار أونشيني. وهو واقع حمل كثيرا من المثقفين الفرنسيين على التحذير من تأثير التركيز وامتداداته من خلال الرقابة والرقابة الذاتية ومخاطر تعميق الانحدار نحو حالة انكماش ديموقراطي (6).

في الجنوب، يكتسي توجه التركيز الاقتصادي لوسائل الإعلام مفعولا سياسيا مباشرا في خدمة تيارات سياسية بعينها، على غرار أمريكا الجنوبية؛ حيث الزواج الكاثوليكي بين التيارات اليمينية والمؤسسات الإعلامية الكبرى التي شرعنت معظم الحركات الانقلابية على الحكومات المنتخبة.

في البرازيل، أفرز اتفاق الجيش مع مجموعة تايم لايف بناء إمبراطورية غلوبو ذات السطوة الإعلامية الواسعة. في تشيلي، تسيطر مجموعتا الميركوريو/ El Mercurio وكوبيسا Copesa على 90 بالمئة من الصحف وعلى صناعة الإعلام الرقمي. أما في البيرو، فإن مجموعات الكوميرسيو وATV ولاتينا تهيمن على 84 بالمئة من سوق الإعلام. في فنزويلا، دعمت وسائل الإعلام الخاصة المحاولة الإنقلابية على تشافيز عام 2002، واتخذت المجموعات الكبرى في البرازيل موقفا مناهضا لحكومات لولا وديلما روسيف، بل لعبت دورا حاسما في المسلسل الذي أطاح بديلما روسيف عام 2016.

 

التركيز الاقتصادي إذن ظاهرة ديناميكية تجتاح المشهد الإعلامي في مختلف الدول بتفاوت في الحدة والأشكال، مستندة على نوع من التغذية المتبادلة بين القدرة الاقتصادية التي تتخذ يوما بعد يوم مظهرا احتكاريا، والسلطة السياسية التي تجتذب بوتيرة متنامية جماعات المصالح الواعية بالإمكانيات المتاحة للتأثير في المشهد السياسي والحزبي وتوجيهه. وبين هذين القطبين الصلبين اللّذين يتكاملان في صناعة بنية الهيمنة على المجتمعات في زمن العولمة والنيوليبرالية، يواجه الفعل الإعلامي تحديات نوعية تضغط على تمثل مهمته الاجتماعية والثقافية والتربوية أيضا. ولعل مستقبل الإعلام عبر العالم سيتوقف على مدى قدرة القوى الحية في المجتمعات على بلورة وتنشيط آليات مقاومة من داخل أنظمة التشريع والتقنين، تستعيد مساحات الخدمة العمومية والمعايير المهنية والجودة، تكريسا للدور التقليدي للصحافة بصفتها رافعة للديموقراطية ودعامة للتنوير والنقد والنقاش الحر الذي يعكس مختلف حساسيات المجتمع وشرائحه.

 

مراجع:  

1- 

 Fabrice Lequeux et Yves Thepault : L’influence des MAJORS en communication. Trente ans de construction d’une dominance informationnelle et économique mondiale. AFRI, Volume XII, 2011. https://www.afri-ct.org/wp-content/uploads/2015/03/65-_Article_Lequeux_et_Thepaut.pdf

 Werner A. Meier : Media concentration governance: Une nouvelle plateforme pour débattre des risques? « Réseaux » 2005/3 no 131. Pages 17 à 52. p 40 

2- Habermas, Jürgen (1988). L’espace public : archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, Paris, Payot, coll. « Critique de la politique », 324 p. p 177. 

3- سميرة بلعربي: المجموعات الاعلامية الاحتكارية.. دراسة في العلاقة بين الاعلام و المجموعات الاقتصادية. جامعة البويرة، الجزائر. 2016.

 https://samc.ksu.edu.sa/sites/samc.ksu.edu.sa/files/imce_images/bhth-smyr_blrby.pdf

4-  Werner A. Meier. Media concentration governance op. cit. P :23

5- Reporters sans frontières : Qui possède les médias en France ?, 7 décembre 2017.

6-  Le Monde Politique : Medias sous influence. https://www.lemondepolitique.fr/cours/culture-generale/themes-de-culture-generale/medias-et-communication/medias-sous-influence

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى