فواصل

متى سيتوقف “الحوت” عن التهامنا دون رادع؟

حسن اليوسفي المغاري

 

منذ سنة تقريبا، كنت قد كتبت مقالا نُشر على صفحات مدونات الجزيرة تحت عنوان: في المغرب.. متى سيتوقف “الحوت” عن التهامنا دون رادع؟.

ونظرا لتزامن الأحداث التي نعيشها الآن في علاقتها مع الشأن الاجتماعي والموذج التنموي الجديد المنشود، و”العقد الاجتماعي” الحديث…

أعيد نشر مقال الرأي، مع بعض الإضافات وبنفس العنوان.

 

في المغرب.. متى سيتوقف “الحوت” عن التهامنا دون رادع؟

كثر الحديث مؤخرا عن المشروع المجتمعي وعن القيم التي يجب أن تتشكل منها المنظومة المجتمعية المغربية، وعن العقد الاجتماعي المغربي بنموذج تنموي حديث..

كما عرفت “الساحة العمومية”، على شاكلة “الفضاء العمومي”، نقاشا موازيا حول المنظومة التربوية التعليمية التي تساهم، أو تُشكِّل رافدا أساسيا لروافد المشروع المجتمعي الذي نتغيّاه، كل حسب رؤيته ومنهاجه والفكر الإيديولوجي الذي يمتح منه، أو التوجه السياسي، بل والتوجهات الحداثية أو الدينية المحافظة، أو حتى الإثنية منها.

فأين نحن من مشروع مجتمعي يحفظ للمواطن المغربي حقه في العيش الكريم، وحقه في الانتماء لوطن صار الصغير قبل الكبير فيه، همّه الوحيد أن تطأ قدماه رصيف الضفة الأخرى من المتوسط!

الأسئلة باتت تتكّرر على منظومتنا التربوية والتعليمية، وأسئلة أخرى تفرض وجودها بفعل الالتباس الحاصل لدى جل مكونات المجتمع المغربي، الالتباس الذي يهم أساسا قِيم المواطنة والمشروع المجتمعي الذي سيحقق العيش الكريم والمشترك بين مختلف المكونات المجتمعية التي تشكِّل “الفضاء المغربي”.

يعيش المغرب غليانا اجتماعيا بفعل الفوارق الاجتماعية الصارخة، كما عرف حركات اجتماعية في كل وقت وحين يمكنها أن تكون مفصلية في الحياة السياسية الحالية. فقد ظهرت حركات احتجاجية مع حَراك الريف، واحتجاجات “الخبز الأسود، تلتها انتفاضات بوقع ملموس على المجتمع المغربي، كان لها التأثير السياسي والمجتمعي والاقتصادي. بل وأصبح التفاعل معها يشكل نقطة انطلاق نحو سؤال نمط المشروع المجتمعي المنشود.. فهل نحن أمام صراع طبقي يتغيّر بتشكيل قيم جديدة لمشروع مجتمعي جديد؟ أم نحن أمام صراع مشروعٍ هدفه تحقيق العدالة الاجتماعية الغائبة؟ أم هو صراع سياسي صرف يريد أصحابه الظهور بمظهر القوة، لكن بلبوس مجتمعي؟

أضحت لحركات المجتمع المدني والحقوقي، تجليات مجتمعية بحضورها على الرقعة المجتمعية وبالتالي مطالبتها ودفاعها عن مشروع مجتمعي جديد.
فبالنظر إلى طبيعة الصراع القائم، سواء تعلق الأمر بحَراك الريف، أو بمآسي حَراك “الخبز الأسود” بمناطق جرادة، أو الحملة المجتمعية المتمثّلة في المقاطعة، يظهر جليا أن المجتمع المغربي سائر في طريق خوض صراع طبقي، سببه الأول والأخير هو تهميش وتحقير المواطن المغلوب على أمره، وذلك على الرغم من الدعوات الرسمية “المطمئنة”، لكن حركات الهجرة السرية عبر طريق الموت البحرية، والهجرة الرسمية للأدمغة الشابة، باتت تدحض توجهات الدولة التي تقول “إننا بخير” و تؤكد أن “وضعنا الاجتماعي أفضل بكثير من العديد من المجتمعات الأخرى”.. الأمر الذي يفنده ترتيب المغرب المتأخر في مؤشر التنمية البشرية.

أمام هذه الظروف الاجتماعية، يطرح سؤال الهوية وسؤال المشروع المجتمعي الذي دخل على خط الأزمة الاقتصادية، (المديونية وعجز الميزان التجاري…) وإن كان الأمر بمثابة تحصيل حاصل.

أضحت لحركات المجتمع المدني والحقوقي، تجليات مجتمعية بحضورها على الرقعة المجتمعية وبالتالي مطالبتها ودفاعها عن مشروع مجتمعي جديد

إن التجاذبات الاجتماعية التي تنهل من الفكر الإيديولوجي لفئة من المجتمع التي تنهج النهج الحداثي، أصبح لها تمظهرات مجتمعية تعبر من خلالها على رفضها لكل ما يمت للقيم وللأخلاق وللهوية بصلة.. وبالتالي، صار الانفتاح على الغرب، بفكره وطقوسه وتمظهراتها المجتمعية، أمرا مُباحا، بينما التشبث بالقيم والأخلاق والهوية العربية الإسلامية، والحفاظ على أصالة المجتمع المغربي بتاريخه وثقافاته المتنوعة (الأمازيغية والعربية والريفية والصحراوية)، صار في نظرهم أمرا متجاوزا.

فهل يكفي تغيير نمط العيش لنقول إننا أصبحنا مجتمعا حداثيا أو نموذجا جديدا لعقد اجتماعي مغربي صرف؟ وهل تشبث جزء معتبر من المجتمع بالدعوة إلى الحفاظ على ثقافة المغرب وقِيمه التي تنهل من رصيده التاريخي والحضاري، يُعدُّ تخلُّفا وعودة إلى القرون الوسطى؟ وهل للهوية دخل في المشروع المجتمعي أم هو مجرد هَوَس فكري لدى البعض ومشجب يبني عليه البعض الآخر مرافعاته ودفوعاته؟ أم هو فعل تنموي يتغيى القضاء على الفوارق الاجتماعية التي نخرت البيت المغربي؟

هناك إذن الخطاب الإسلامي الذي تمثله تيارات الإسلام السياسي، وهناك الخطاب الديني الرسمي الذي يجعل نفسه الوصي الوحيد والأوحد للمسألة الدينية، كما هناك مؤسسة الزوايا التي تنتعش بفعل ما يغدقه عليها الفاعل الديني الرسمي، وهناك الخطاب الأمازيغي الذي تمثله بعض الحركات الأمازيغية ومجموعة من المثقفين الأكاديميين المدافعين عن الخطاب وعن الثقافة الأمازيغية، إضافة إلى ذلك، أضحت لحركات المجتمع المدني والحقوقي، تجليات مجتمعية بحضورها على الرقعة المجتمعية وبالتالي مطالبتها ودفاعها عن مشروع مجتمعي جديد، بحيث صارت للحركة الحقوقية من خلال حضورها ونقاشاتها وتبنيها لمشروع الحداثة والحقوق والحريات، صار حضورا ملحوظا انطلاقا من تبنيها مقتضيات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمر الذي بدا واضحا من خلال القوانين الجديدة ذات الصِّلة بالحقوق والحريات.. لكن الأهم الذي يأتي في الدرجة الأولى، المسألة التنموية المرتبطة أساسا بالقوت اليومي لغالبية المواطنين المغاربة، بحيث أضحت قدرتهم الشرائية أسفل معدل التنمية البشرية.

أَوَلم يحن الوقت للحديث عن مجتمع متجانس، مجتمع متعلم يحترم الرأي والرأي الآخر، مجتمع تعدُّدي في تفكيره يجتمع على المُتّفق عليْه، منفتح على مدارسة ومناقشة المختلف حوله بعيدا عن كل النعرات

كما أن لمجموعة من حركات المجتمع المدني التي تنهج المسار الديمقراطي والمقاربات الحقوقية الليبرالية والاقتصادية النيوليبرالية، خطابات وسط أخرى التي تريد تشكيل قِيم جديدة، وبالتالي مشروع مجتمع جديد وهوية جديدة أصبحت معروفة بـ”مشروع التحديث الاجتماعي”. ليبقى السؤال مطروحا أمام الحركات الإسلامية، خصوصا بعد انتكاسة ما سمي بـ”الربيع العربي”، وما شهدته بعض الدول التي عرفت تلك الانتفاضة، من هجمات ممنهجة وصلت حدّ التقتيل والتنكيل والانقلاب والقبضة الحديدية للعسكر والأحكام الصادرة بالإعدام، فكانت السيناريوهات المعروفة. فمنها من تراجع ومنها من توافق مع تيار حداثي (تونس)، كل ذلك جعل من النموذج المغربي الذي خرج بصيغة التوافق مع إسلاميي “الإصلاح من الداخل” (العدالة والتنمية)، من أجل “إنقاد المجتمع من ويلات الانتفاضات” و”لكي لا يصير المغرب مثل ليبيا أو سوريا وألاّ يصل إلى ما وصلت إليه مصر”، ليُطرح السؤال: هل نجح فعلا أصحاب “الإصلاح من الداخل” في ضمان عيش كريم لمن انتخبوهم، أم أنهم ساهموا فقط في حفظ “هيبة الدولة”؟

هذا في الوقت أن المكوّن الثاني للحركة الإسلامية المغربية، (العدل والإحسان)، “يُناصر الحركات الاجتماعية التي تخوضها فئات من المجتمع المغربي ضد الفساد وضد الاستبداد”. بحيث أن (العدالة والتنمية) ترى أن الإصلاح يمكن أن يؤتى من الداخل، بينما (العدل والإحسان) تؤكد أن “أصل الداء هو السلطة الحاكمة الفعليّة” وهو ما تُعرِّفه بـ”المخزن” المتمثل أساسا في الحاكم وحاشيته من لوبيات السياسة والاقتصاد.

نختم نقاشنا بسؤال نطرحه أمام كل من ريد تشكيل مشروع مجتمعي جديد لنقول لهم: ألم يحن الوقت للجلوس إلى طاولة الحوار لنقاش أي مشروع نريده لمغرب صار أبناؤه لقمة سائغة للحوت، وأضحى شبابه المستنير بشهادات عليا في أحضان الغرب هروبا من واقع بئيس، (هجرة 600 مهندس مغربي سنويا)، وفئاته المجتمعية الفقيرة والكبيرة عددا، المضطهدة التي لا تطلب سوى العيش الكريم؟ أَوَلم يحن الوقت للحديث عن مجتمع متجانس، مجتمع متعلم يحترم الرأي والرأي الآخر، مجتمع تعدُّدي في تفكيره يجتمع على المُتّفق عليْه، منفتح على مدارسة ومناقشة المختلف حوله بعيدا عن كل النعرات ما دُمنا نشكل جميعا هذا الوطن، مغرب يحترم خصوصياته يسير نحو المبتغى المنشود بمشاركة الجميع؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى